في حياة الفنان الكبير جميل راتب، تداخلت الصدفة مع القدر، واندمجت الأصول الأرستقراطية مع الموهبة الفذة، لتصنع من فتى الباشاوات نجمًا عالميًا في عالم التمثيل، وهو الذي لم يكن في البداية مرشحًا لهذا الطريق، لولا ظروف استثنائية غيّرت مسار حياته تمامًا.
سليل الباشاوات من طرفَي العائلة
ينحدر جميل راتب من عائلة مصرية عريقة ذات جذور عثمانية، وهي عائلة راتب، التي أسسها جده محمد راتب باشا، أحد كبار موظفي الدولة في عهد محمد علي باشا. كان الأبناء يدرسون في الأزهر، ويتخرجون للعمل في الديوان الملكي، حتى أصبحوا جزءًا من النخبة الحاكمة في مصر الملكية.
من جهة والدته، لم تكن مكانتها الاجتماعية أقل شأنًا. فوالدته نائلة هانم، ابنة عمر باشا سلطان، كانت من جميلات عصرها، ما وضع جميل راتب في دائرة صفوة المجتمع المصري في النصف الأول من القرن العشرين.
باشوات "السينما" أيضًا!
ورغم مكانته الاجتماعية الرفيعة، فإن جميل راتب كان أيضًا "سليلًا" لباشاوات من نوع مختلف.. هم باشاوات السينما المصرية.
فهو يُعد امتدادًا رمزيًا لأمثال زكي رستم، صاحب الهيبة والوقار في أدواره، وسليمان نجيب، الذي جمعت شخصيته بين الوسامة والحدة، ليكون امتدادًا لجيل ممثلين فرضوا سطوتهم بأدائهم لا بألقابهم.
الطلاق والحرب... بداية غير متوقعة لطريق الفن
كانت الصدفة، ثم الحرب، وراء توجه جميل راتب إلى التمثيل. فبعد طلاق والدَيه نتيجة خلاف عائلي، اصطحبته والدته إلى فرنسا عام 1938، وهناك حاصرته الحرب العالمية الثانية، فطال غيابه عن مصر 12 عامًا.
في فرنسا، التحق بالمدارس الفرنسية، وحرصت والدته على تدريسه اللغة العربية بنفسها، خوفًا من أن يفقد ارتباطه بجذوره. لكن الفن كان يترصده بهدوء، حيث انجذب إلى المسرح ودرس الدراما في أرقى المعاهد الفرنسية.
أول عربي في تاريخ "الكوميدي فرانسيز"
بعد تخرّجه، اجتاز امتحانًا صعبًا أهّله للانضمام إلى فرقة الكوميدي فرانسيز العريقة، ليكون أول وأخر ممثل عربي ينضم إلى هذه الفرقة العالمية حتى اليوم.
من باريس إلى القاهرة.. والعودة إلى الجذور
رغم نجاحه في أوروبا، عاد جميل راتب إلى مصر في زيارة قصيرة برفقة زوجته الفرنسية، المنتجة السينمائية. لكن هذه الزيارة تحوّلت إلى إقامة دائمة، بعد أن احتضنته السينما المصرية، تلتها أدوار مهمة في التلفزيون والمسرح.
أصبح راتب الخليفة الطبيعي لباشوات الشاشة الذين رحلوا، بفضل أدائه المميز، وصوته العميق، وحضوره الطاغي الذي لا يُنسى.