في مثل هذا اليوم من عام 1589 ولدت طفلة سيكون قدرها أن تغير سلطنة وتصعد من الحضيض لتصبح واحدة من أبرز نساء التاريخ.
كاتبة التاريخ وصانعته
السلطانة كوسم التي عرفها الجمهور العربي من مسلسل تركي حمل اسمها، واحدة من نساء السّلطنة العثمانية حفرت اسمها بالنور والنار، قوية كعاصفة تقتلع من يقف في دربها. وهادرة كموج تسحق المراكب التي لا تهاب شطآنها.
ماكرة وقوية لا تهاب ولا تفزع. استطاعت أن تغير التاريخ وتكتبه باسمها.
السّلطانة كوسم أشهر نساء التاريخ العثماني، حكمت البلاد ما يقرب من نصف قرن كاملًا، فكانت زوجة السلطان ومن بعده أم السلاطين، وصفها المؤرخون بـ" ذكية إلى درجة عالية وماكرة ومراوغة، صانعة للخطط السياسية والمؤامرات بمنتهى الدقة، مؤثرة ومقنعة لدرجة كبيرة".
عمل درامي مس كل من شاهده
تحولت حياتها المشاكسة والمُعبرة إلى عمل درامي تركي يحمل اسم "السّلطانة كوسم" قام ببطولته اثنتان من أفضل وأجمل ممثلات تركيا بيرين سات التي انسحبت من الموسم الأول، ونورغول يشيلتشاي التي أكملت بعدها.
وبهذه الدراما المسرفة بكل ما فيها استطعنا أن تعرف على سيدة حكمت سلطنة المشرقين. وبأداء التميز ونشر الأبهة السلطانية وقع قلبنا في الابطال وفي الشخصيات التاريخية التي يجسدونها.
الجارية التي صارت سلطانة
هي الجارية "أناستاسيا" تلك الطفلة الصغيرة التي ولدت في جزيرة تينوس في اليونان لأب "أسقفًيا"، وقعت في الأسر على يد سيد أسياد البوسنة وكانت حينها لم تتعدّ الـ 16 عامًا، ثم أرسلها إلى الباب العالي في اسطنبول كهدية إلى حرم السلطان أحمد الأول، دخلت "اناستاسيا" الإسلام وغير اسمها إلى "كوسم".
الحب والعشق هو سلاح المرأة الأبدي عندما تريد أن تحارب بسلاح جمالها وأنوثتها لتحصل على مبتغاها.
كانت فتاة ذكية لدرجة كبيرة، استغلت اعجاب السلطان أحمد الأول بها ووصلت به إلى درجة العشق بجنون حتى تزوجها، وأصبحت السلطانة "كوسم" سيدة قصر"توبكابي" العثماني، وأنجبت السلطانة خمسة أبناء "شاه زاده محمد ومراد الرابع، وشاه زاده قاسم، وشاه زاده سليمان، وإبراهيم، ومن البنات خمس وهن عائشة وفاطمة وجوهر خان وهانزاده وبورناز عاتكة.
من زاهدة بالسلطة إلى حاكمة
في بداية الأمر لم تأبه كوسم للسلطة والحكم. وسرعان ما تفتحت عينها على القيادة واستطاعت أن ترتقي لتصبح في قمة هرم الحرم السّلطاني.
يذكر أنها تتمتع بجمال ودهاء والعديد من المواهب منها الغناء بامتياز. وهذا ما جعلها محبوبة السّلطان وأخذت بقلبه وعقله وطالما أرادها بجانبه والأخذ بمشورتها.
عُرفت السّلطانة كوسم بحكمتها ورويتها ومن أين تؤكل الكتف.
فعملت جاهدة حتى ازداد نفوذها على السلطان أحمد. فصارت أحد مستشاريه. ومع ذلك، فقد امتنعت عن توريط نفسها باستمرار في القضايا الخطيرة لأن السّلطان رفض أن تطغى زوجته على قراراته وسلطته.
عرفت كيف تصبح رأس الحرملك ولم تتوانَ عن فعل المقالب لتحافظ على منصبها ومكانتها. وبقيت دوماً المؤثر الأول على السلطان. وحظيت على الدوام بقلبه ولا يحرمها من أي شيء تريده.
صاحبة المكائد والقتل
عندما توفي زوجها السلطان أحمد الأول لم تستسلم أو تتنحَ. بل أرادت أن تكون صاحبة القرار والشأن. فأبعدت بخططها الأمير عثمان ابن ضرتها السلطانة الكبرى خديجة ماه فيروز عن السلطنة واتفقت مع الأمير مصطفى عم أولادها على تعليه حكم السلطة لحين أن يكبر ابنها الذي كان طفلًا في ذلك الوقت، على أن تكون السلطانة "كوسم" هي سيدة الحرملك الأولى بلا منازع.
لكن حكم السّلطان مصطفى لم يدم سوى ثلاثة أشهر فقط. فلم تسلم السّلطانة كوسم بالأمر الواقع عندما تسلم ابن ضرتها الحكم السّلطان عثمان الثاني فدبرت اغتياله واغتيال أمه.
وتحقق حلم "كوسم" وأصبحت السّلطانة الأم، وجاءت فرصتها بإدارة شؤون البلاد وإدارة جلسات الديوان السياسي، وهي لم تتعدى الـ 30 عامًا.
الداهية التي عرفت إرضاء الشعب
وحتى تُحكّم قبضتها جيداً عرفت كيف تستميل الناس اليها. فأقامت المشاريع وقدّمت التبرعات والأعمال الخيرية على السّواء بالنسبة للشعب وللطبقة الحاكمة في الدولة. واشتهرت بتقديم المساعدات للفقراء في جميع أنحاء الدولة العثمانية، وفي كل سنة من شهر شعبان كانت تزور السّجن وتدفع الديون عن المحكومين الذين حُكم عليهم بالسجن بسبب ديونهم، وتطلق سراحهم من السّجن كما ساعدت المسلمين الموجودين في مكة والمدينة.
دوماً كان لديها خطط من أجل استلاب قلوب الناس ومحبتهم ولتحكم قبضتها على سائر البلاد. فجهزت بنات الأسر الفقيرة بجهاز العروس عند الزواج. وموّلت أعمال الري في مصر. وقدمت الإغاثة لفقراء مكة. وحرير العبيد عندها بعد 3 سنوات من الخدمة.
كانت تدرك أن العمران والازدهار هو ذخيرة كل حاكم. فقامت بتشييد ما ينفع الناس، من مساجد ومدارس وينابيع مياه للشرب (نوافير) وبيوت المسافرين وغيره.
تورطها في الحكم والسّلطة والمكائد جعل لها على الدوام أعداء فقُتلت كوسَم خنقا، في غرفتها عن عمر 62 عاماً. وبعد وفاتها نُقل جسدها من قصر طوب قابي ثم دُفنت بجانب قبر زوجها أحمد الأول في منطقة سلطان أحمد في اسطنبول.
عندما علم أهل القسطنطينية بوفاتها، أقاموا عليها الحداد ثلاثة أيام.
المسلسل الذي حمل اسمها اعتبر تكملة لسلسلة "حريم السلطان"، حظي بنجاح جماهيري، لكنه لم يصل إلى مستوى المسلسل الأصلي، الذي فتح الباب أمام الدراما التاريخية لتصبح بعدها المادة الأكثر رواجاً في الدراما التركية.