في مثل هذا اليوم، 30 أيار/مايو، تحلّ ذكرى وفاة الفنانة القديرة مديحة يسري، واحدة من أيقونات السينما المصرية في عصرها الذهبي التي رحلت عن دنيانا قبل 7 سنوات. وبمناسبة هذه الذكرى، نستعرض واحدة من أكثر محطات حياتها ألمًا وإنسانية: رحلتها مع حلم الأمومة، ذلك الحلم الذي لطالما راودها منذ الصغر، لكنه تحوّل إلى مأساة لا تُنسى.
قصة حزينة عاشتها بعيدًا عن الكاميرات، لكنها تركت أثرًا بالغًا في روحها ومسيرتها.
الحلم الذي طال انتظاره
كانت مديحة يسري تحلم منذ صغرها بأن تصبح أمًا، وأن تعيش مشاعر الأمومة الكاملة. لكن بعد انتهاء زيجتها من المخرج أحمد سالم، شعرت أن هذا الحلم بات مستحيلًا، وقررت أن تغلق قلبها أمام أي علاقة جديدة، وابتعدت تمامًا عن فكرة الدخول في قصة حب ثانية.
ومع مرور الوقت، دخل الفنان محمد فوزي حياتها بهدوء، لكنه لم يجرؤ في البداية على الاعتراف بحبه بشكل مباشر. كان يخشى أن تُفسد صراحته علاقتهما القوية، ولذلك استعان بعدد من الأصدقاء والمقربين ليستشفّ رأيها في الموضوع قبل أن يتقدم رسميًا. وبعد أن حصل على إشارات مشجعة، قرر أن يفصح عن مشاعره بنفسه.
في أحد الأيام، دخل فوزي إلى غرفة مديحة في الاستوديو وقال لها بكل صدق: "بحبك يا مديحة ومش قادر أخبيها أكتر من كده.. تتجوزيني؟"
تفاجأت مديحة بالكلمات، وسكتت بينما تسارعت دقات قلبها. فسألها فوزي: "مش بتردي ليه؟ أفهم من سكوتك إنه علامة رضا؟"
عندها، تمالكت مديحة أعصابها وقالت له: "أنا موافقة نتخطب، والجواز يكون بعد سنة، لأننا محتاجين وقت علشان نتأكد من مشاعرنا."
فرحة الزواج وحلم الأمومة يتحقق
مرت فترة الخطوبة سريعًا، وتُوّجت بالزواج، ليبدأ الثنائي حياة مليئة بالحب والسعادة. وازدادت سعادة مديحة حين علمت بأنها حامل، وشعرت أن حلم الأمومة الذي طال انتظاره أصبح أخيرًا حقيقة.
لكن الفرحة لم تدم طويلًا. فعندما وصل الحمل إلى الشهر السابع، بدأت مديحة تعاني من مشكلات صحية خطيرة. وفي أحد الأيام، اشتد الألم عليها بشدة واضطرت للولادة المبكرة. أنجبت طفلتها التي طالما حلمت بها، وأطلقت عليها اسم "وفاء"، لكنها لم تتمكن من احتضانها كما كانت تتمنى.
تم نقل الطفلة مباشرة إلى الحضانة، حيث أكد الأطباء أنها تعاني من عيوب خلقية خطيرة، وفرصها في الحياة ضعيفة للغاية. الخبر وقع كالصاعقة على مديحة، التي لم يكن أمامها سوى التمسك بالأمل.
معركة الحياة... والخسارة الأولى
بدأت رحلة البحث عن علاج لطفلتها "وفاء". عرضتها مديحة على عدد كبير من الأطباء في مصر، لكن دون جدوى. ثم سمعت عن طبيب مخ شهير سيزور مصر، فتوجهت لاستقباله في المطار بنفسها، وطلبت منه فحص ابنتها. وبعد الكشف، أخبرها الطبيب بصراحة أن لا أمل في نجاتها.
رفضت مديحة الاستسلام. اتفقت مع محمد فوزي على السفر إلى السويد بحثًا عن أمل جديد. لكن بعد محاولات كثيرة، جاء الخبر القاسي: لا علاج لحالة وفاء، وتوفيت الطفلة تاركةً وراءها جرحًا عميقًا في قلب أمها.
وفي لفتة إنسانية مؤثرة، كرّمت مديحة يسري ذكرى ابنتها الراحلة من خلال فيلم حمل اسمها، "وفاء"، الذي قدّمته في عام 1953.
حمل جديد ومشاعر مختلطة
بعد مرور عام على وفاة "وفاء"، شعرت مديحة يسري بتوعك صحي، وتوجهت إلى الطبيب الذي زفّ إليها خبرًا سعيدًا: إنها حامل من جديد.
في تلك اللحظة، اختلطت مشاعرها بين الفرح الشديد والخوف من تكرار المأساة. التزمت بتعليمات الطبيب بدقة، وحرصت على الراحة التامة طوال فترة الحمل، إلى أن وضعت مولودها "عمرو".
عمرو كان بمثابة تعويض إلهي لها. ملأ حياتها بهجة وسعادة، وأشعرها لأول مرة بمعنى الأمومة الحقيقي. أصبحت حياته تدور حوله، ووجدت فيه العزاء عن كل ما مرت به.
كابوس يتكرّر من جديد
لكن الحزن لم يكن بعيدًا عن حياة مديحة يسري. فقد بدأت تراودها أحلام متكررة بأن ابنها عمرو سيتعرض لحادث سير. كانت تشعر بالقلق، وتسأل الشيوخ عن تفسير تلك الرؤى، لكنها لم تكن تتخيّل أبدًا أن يتحوّل الحلم إلى واقع مأساوي.
في عمر السادسة والعشرين، تعرّض عمرو لحادث سير مروّع، فارق على إثره الحياة.
تقول مديحة عن تلك اللحظة المفجعة:
"عندما جاءني خبر وفاة عمرو تحجرت الدموع في عيوني من هول الصدمة.. لم أستطع البكاء على العزيز الغالي الذي ضاع.. في لحظة واحدة سرقت الدنيا كل أفراح عمري.. خطف الموت أغلى الأحبة في غمضة عين.. القدر قال كلمته وافترقنا.. وتركني ابني وحبيبي وعمري كله وسط ركام الأحزان تثير شجوني وأحاسيس الألم تعتصرني.."
دخلت مديحة يسري في عزلة تامة بعد وفاة ابنها، وابتعدت عن الأضواء والحياة الاجتماعية، واكتفت بالدعاء والصلوات وقراءة القرآن لروحه. لم تنسَه يومًا، واحتفظت بصوره في أرجاء منزلها حتى وفاتها. وكانت تردد دائمًا:
"أنا أشعر به ينتظرني على باب الجنة لنكون معًا في الآخرة."
مديحة يسري لم تكن فقط فنانة متألقة، بل إنسانة عاشت مأساة أمومية قلّما يُدرك عمقها. فقد فقدت طفليها في ظروف قاسية، وتحملت ما لا يحتمله كثيرون، وظلت رغم كل ذلك متماسكة، تُعطي وتُحب وتُبدع.