انتقلت رنا جبران، المذيعة والممثلة وعارضة الأزياء السعودية، من موقع الوجه المحلي لتصبح وجهاً على امتداد أكبر. راسخة في الأذهان، مرسومة في الذاكرة، عندما أدّت شخصية سهام في مسلسل "أمي" السعودي المُعَرَّب عن التركية.
الشخصية الظالمة والمظلومة
عندما أطلت سهام في مسلسل "أمي"، لم تكن سوى صوت مصادر ووجه مكسور. امرأة بلا صوت، تحمل تعابيرها وتهيم على وجهها غير مدركة سيرها.
امرأة فظة، قاسية الملامح، صامتة، مكدّرة ومتعبة، وتتناول أدوية باستمرار. زوجة مطيعة وراضخة حد الانسحاق، وأم لا تبالي، مسفوكة القدرات. شخصية نيئة، مظلومة وظالمة.
وجه بلا ملامح
لم نستطع في بدايات العمل أن نكتشف الوجه العميق لسهام. كانت امرأة مخنوقة ومبلوعة. مقروءة بشكل جيد من قبل المشاهد، الذي لم يسمع أنينها، ولا صراخها، ولا حتى رضاها. وجه يمشي بلا ملامح واضحة، بثوب واحد أسود وتعابير جامدة تؤطر القسوة. وكانت رنا جبران في المرصاد، تؤدي رسالتها من خلال هذه الشخصية المنهكة.
من الصعب في الحياة أن نحب شخصية مثل سهام. شخصية ضعيفة ومستكينة، لا تجابه. واستطاعت رنا جبران أن تصل إلينا بذاك الوجه المُحنّط الفارغ، وذاك الضياع. عشرون حلقة أو أكثر، ورنا جبران لم نسمع صوتها. كانت تمثّل بعيونها، بملامحها، بخطواتها، تنثر شخصيتها المقيتة في وجهنا بدون حوار وبدون كلمة، ووصلت إلينا حد الكره لها. امرأة عضّها القدر والرجل، فصارت بلا حضور.
سهام تجسد كل ظلم النساء
في نهاية المطاف، نكتشف سهام. امرأة تختصر كل أنواع الظلم في الحياة: ظلم الحياة نفسها، والقدر السيئ بموت زوجها تاركاً لها طفلة بكل مسؤولياتها. ثم تتزوج بهدف السترة والاستقرار، فيكون الزوج لعيناً وظالماً.
تعيش سهام مع زوج عاطل وفارغ، يُشغلها ليقتات ويتمرغ بملذاته من عرقها. ويعاملها، هي وابنتها، بسوء لا يوصف. لا تحب سهام أن تحيد عن الحق، لكن الضعف والوهن الذي فيها يجعلها مسلوبة وراضخة، فيصبح استسلامها ليس فقط مذلة، بل ظلماً آخر مضافاً للظلم الذي حولها.
الشخصية المعقدة
هذه الشخصية المعقدة والصعبة جاءت بها رنا جبران بكل أحاسيسها وأبدعت. وراقت لنا صورتها في الأداء. جعلتنا ننتفض لها ونشفق عليها، وفي الوقت نفسه نريد أن ننكش بها لتتحرك وتنتفض وتأخذ موقفاً بدل هذا الاستسلام.
أظن أن رنا جبران، بعد هذا الأداء، باتت تحتاج وقتاً طويلاً من السكينة والاغتسال لتتخلص من أردان هذا الدور الصعب.
يختزل دور رنا جبران في "أمي" مأساة الكثير من النساء المظلومات وفاقدات الحيلة. نساء يُهَنّ ويُضربن ويُستبدّ بهنّ، ويشهدن على عذاب فلذات أكبادهن وهنّ لا صوت لهنّ ولا قدرة على المقاومة أو نفض هذا الظلم.
رنا جبران أدّت دوراً صعباً وشائكاً. واستطاعت، بلون واحد من اللباس الأسود، أن تكون متعددة الألوان، تجهر في وجه من يريد مساعدتها، وتستكين بوجه ظالمها. لم تكن أدوات رنا جبران في هذا الدور سوى روحها. لا لباس، لا مكياج، لا حذاء، حتى الرأس ملثّماً، وخرجت منه ناصعة الأداء، لحد مقتنا سهام واستسلامها وخضوعها. وأبكتنا لضعفها، وتشاطرنا معها الدمع كأم لا تستطيع حماية ابنتها.
رنا جبران باتت اسماً صعباً. فسهام صورتها واضحة وجلية، ووجهها أليف ومحبوب. وعندما يصل الممثل إلى هذا الحد من اختراق هويته الأصلية ليكون الدور الذي يؤديه، قد وصل إلى أعلى مرتبة، فننسى من خلفه، ولم نعد نرَ سوى الشخصية التي يؤديها، يكون قد وصل إلى ذروة الإبداع. ورنا جبران فعلتها.
.