أضاء صوتها ليل بيروت. ارتفعت منارة البحر، وشهد المتوسّط موجاً أعلى من موجه، بحر البشر رقص، سكن، غنّى، وسافر في رحلة الصوت، وبكى.
وقفت ماجدة الرومي في وسط بيروت تغني "خدني حبيبي" و"يا سنيني لا تنسيني"، بعد خمسين عاماً، والوجه الطفولي نفسه، والحنجرة نفسها، تُحولنا سُكارى، تفتح سجوننا الداخلية، تُسمّرنا على المقاعد، ثم تهبّ فينا، فننهض من سحرنا، نشتعل، نهيم كظلال مائلة، نصرخ كالشعلة، والصوت السوبرانو يعلن نهضته: "قومي يا بيروت".
يصبح الحضور عاصفة، تقف الأرجل ولا تستكين الأرواح، الأيدي تتجمّر من كثرة التصفيق، الوجوه تغتسل بذهب صوتها، ترفع صوتها أكثر، تردّد السماء الصدى، تتفتح النجوم أكثر، والسيدة واقفة كحلم متجسد، تنحني لهتافات الناس، تلفّ نفسها بالعلم اللبناني، وتطوي جسدها، والجمع يكسر أغلال السمع، والسماء تكتب اسمها بالألعاب النارية، وقامة الحرية تلوي نفسها أكثر.
جاءت ماجدة الرومي بعد سنوات، تقف في بيروت، فرحلت المدينة صوبها، اجتمع الوطن في قلب العاصمة، رؤساء، ومحبّون، وحالمون، وهي تدخل كأميرة كنعانية متشحة بالأبيض والأسود، تقبض على عيوننا، وتطلق أرواحنا في ليلة الطرب.
رحلة عبر الزمن وأرشيف الأغاني
تبدأ الأمسية في رحلة عكس الزمن، تعود إلى أرشيف الماضي، تغنيه، فيرجع طازجاً نضراً، والألوف تردّد معها، وفرقة كورال من 25 حنجرة تصدح خلفها كجوقة صلاة، والأوركسترا الكبيرة بقيادة لبنان بعلبكي تقود الليل على وتر واحد، فتصدح الموسيقى الكبيرة، ويصبح المكان رفع قداديس، هي تغني، والناس يتجلّون ليصبحوا في أعلى مكان.
ليلة التجلي... ماجدة والناس في تناغم سماوي
يرتفع صوت من الحضور يقول "قومي يا بيروت"، تردّ عليه سيدة الحفل: "بعد شوي"، وينطلق العازفون في نحت الهواء، وتكسر الحنجرة صمت الألوف، تغني للحب، للصداقة، للقلب، للتجلي، للحلم: "عم بحلم ليل نهار"، "يا صديقي"، "أحبك جداً".
وعندما يجتمع العزف في "كلمات"، يتوحد الصوت، ويصبح الجمهور هو الجوقة، وماجدة تقودهم، فتصبح هي المايسترو، هم يغنون، وهي توزّع الأدوار، ليكتمل حفل التجلي.
الماجدة تتكلم: عن الأمل والوطن والعدو
لا يأتي حضورها سهلاً، بل مستعصياً حدّ الخلود. فهي تجيد الكلام كما الغناء.
ترحب بناسها، وتحكي عن الأمل في العهد الجديد، عن التعب المستمر منذ 1975، عن حق الناس في العيش بسلام، عن العدو الذي أحرق وهدم، ونحن نعرفه جيداً منذ مجازر دير ياسين، وقانا، والاجتياحات المتتالية، وصولاً إلى غزة، وكل المجازر المرتكبة من عدو لا يقوم بحرب بل بمجازر حرب.
ردّها على الكراهية: رقيّ يعلو على الضجيج
لا يغيب عن الماجدة أن تشكر محبيها، وأقلام الصحافة التي رافقتها منذ البدايات وحتى اليوم، وشكرت منتقديها، ولاعنيها، وشاتميها، قائلة:
"أنا ماجدة الرومي، وما وصلت إليه بفضل كل ما مررت به، وعلّمني أن لا أؤمن إلا بسيادة لبنان وشعبه وجيشه."
لم ترد ماجدة الرومي مباشرة على كل الحقد والسواد الذي رموها به مؤخراً، مشككين بوطنيتها. لكنها قالت أبعد من الرد، علّمتهم الأدب من كتاب رقيها، وتلت على مسامعهم فنّ التجلي والرفعة والانتصار والوطنية، بصوت أبعد من الشعر والموسيقى، صوت كفيل بأن يهذّب الروح.
صوت يُشعل الحياة ويُسكّن الوحشة
ماجدة الرومي التي افتتحت "أعياد بيروت"، افتتحت أيضاً أملاً ومرحلة جديدة، ووطناً يحلم بغدٍ أفضل.
ماجدة التي وقفت ليل أمس تنشد بصوتها أرشيف الذاكرة وتعلن بشارة الحياة، جاء الوطن إلى ركح مسرحها، يردّد أنغامها من مسؤولين، وقادة، وصحافة، ومثقفين، وعرب يتمّمون مرحلة الإنقاذ.
ماجدة الهادئة على مسرحها النقية كزهرة لوز في نيسان، عندما تفتح صوتها وتطوي جسدها مع النغم وتنحني كثيراً للتصفيق، لحب جمهورها، تعلن أنها مطربة زمننا وأن فنها عصرنا وصوتها شجرة أرز لا تهاب الريح.
ماجدة الرومي بالأمس صنعت ليلاً من اجتياح، أسكتت وحشتنا وأسكنتنا الحنين.
غنت فحبست أنفاسنا، وشرعت مسرحها للحياة والقلوب والوطن.
فكانت وطناً لنا.