لم تكن حياة السيدة فيروز، صوت لبنان الخالد، مسارًا ناعمًا كما توحي به أغانيها التي رافقت وجدان العرب لعقود. وراء هذا الهدوء الآسر، تقف امرأة تجرّعت الفقد واحدًا تلو الآخر بصمتٍ نبيل. واليوم، يُضاف إلى أحمالها الثقيلة صليب جديد، برحيل نجلها، الفنان والموسيقار زياد الرحباني، عن عمر ناهز 69 عامًا، بعد مسيرة فنية استثنائية أثرت الذاكرة الفنية اللبنانية والعربية.
ليال... الرحيل المبكر
عام 1988، تلقّت فيروز واحدة من أقسى ضربات الحياة، بوفاة ابنتها ليال الرحباني، التي رحلت فجأة إثر انفجار دماغي عن 29 عامًا. كانت قريبة جدًا من قلب والدتها، ومثّلت خسارتها مأساة عائلية عميقة تركت أثرها الحزين في ملامح فيروز الهادئة.
عاصي... شريك الدرب والبداية
قبل ليال بعامين، رحل عاصي الرحباني، المؤسس مع منصور الرحباني للمشروع الرحباني الذي انطلقت منه فيروز، ورفيق عمرها الفني والإنساني. شكّل غيابه عام 1986 أول فقدٍ جوهري في حياة فيروز، إذ انتهت برحيله شراكة إبداعية لا تُنسى، وأسدل الستار على مرحلة ذهبية في الموسيقى اللبنانية.
زياد... الابن، والموسيقي، والصوت المختلف
برحيل زياد الرحباني، اليوم، تخسر فيروز سندًا عاطفيًا وفنيًا نادراً. زياد لم يكن مجرد ابن، بل كان وريثًا للنهج الرحباني، وإن بتمرد واضح. غاص في السياسة والمسرح والموسيقى بلغة جديدة، وانتقد الواقع اللبناني بحدة وسخرية، رافضًا أن يكون امتدادًا مطيعًا للمدرسة الرحبانية، بل صنع بصمته الخاصة.
رافق فيروز فنيًا في مراحل عدّة، أبرزها ألبوم "كيفك إنت"، وقدم لها ألحانًا بطابع جديد، كاسرًا قواعد الغناء التقليدي، وهو ما منح صوتها بعدًا أكثر حداثةً وحميمية.
فقد فنيّ وثقافي يتجاوز العائلة
زياد لم يكن مجرد فرد في عائلة فنية، بل كان ظاهرة مستقلة. رحيله لا يُعد مأساة شخصية لفيروز فحسب، بل هو خسارة فكرية وثقافية للبنان والمنطقة. فبغيابه، ينطفئ أحد أكثر الأصوات جرأة ونقدًا، ويُطوى فصل من فصول المسرح السياسي والموسيقى الساخرة التي حملت وجع الناس ببساطة وذكاء.
فيروز تصمت مجددًا... وحيدة أمام الوجع
من عاصي، إلى ليال، إلى زياد... تمرّ فيروز اليوم أمام ثلاث محطات وجع، كل منها ترك أثره، وها هي تواجه الفقد الأخير بصمتها المعهود، ذاك الصمت الذي قال دائمًا كل شيء. وبين الأغاني التي لا تموت، يعلو وجع جديد لا يمكن لأي لحنٍ أن يسكّنه.