فيلم "صوت آب" لمارسيل غصن وجعٌ يصحو من تحت الركام، ينهض كصرخةٍ مكتومة من ذاكرة بيروت المثخنة، ليعيد إلينا المأساة كحدثٍ مضى، وكزمنٍ معلّق بين الحياة والموت.
يوقّع مارسيل غصن عملاً سينمائياً يتجاوز حدود السرد التقليدي ليحاكي الضمير، فيعيد صياغة الانفجار عبر قصة أبٍ واحدٍ يختصر حكايات مدينة كاملة، جُرحت وفقدت نفسها تحت الركام.

انفكاك اللحظة وحدوث الانفجار
يبدأ الفيلم بصورٍ عن بيروت أيام العز والنشاط ، عن مدينةٍ تنبض بالضوء والفرح، قبل أن تبتلعها غيمة سوداء عملاقة تمحو كل ما كان حيّاً. في تلك اللحظة، يدخل المشاهد في عمق المأساة، حيث الأب العالق تحت خزانةٍ ضخمة، نصفه حيّ ونصفه الآخر عالق بين الرماد والعدم والدم. يعيش بين أنفاسٍ متقطعة، تتداخل فيها ذاكرة المدينة مع أنين جسده، ليصبح الجرح الشخصي مرآةً لجراح وطنٍ بأكمله.

البطل القدير
مارسيل غصن الذي يؤدي الدور كبطل رئيسي، يعيش تلك اللحظة حتى الفناء. وجهه المرهق مدمم، نظرته المبحرة في العدم، وصوته المتهدّج،وصراخه الأليم ونومه على الزجاج كلها عناصر تجعل الأداء أقرب إلى طقسٍ روحيّ منه إلى تمثيل. لقد أدّى الدور بكثافة ممثلٍ نضج على نار التجربة، فكان الألم فيه صدقاً لا مشهداً.
بطل غير تقليدي
الفيلم لا يقدّم بطلاً تقليدياً، بل إنساناً يواجه هشاشته المطلقة. الأب هنا ليس رمزاً للبطولة، بل تجسيداً للعجز، للحبّ الذي يقاوم الغياب، وللأبوة التي تتآكلها الأسئلة والذنب.
على مدى ساعة من العرض، يتكئ الفيلم على الصوت كأداةٍ درامية. الأصوات وحدها تحكي صوت الأب، صوت الممرضة، صوت الابنة، صوت المدينة المنكوبة. في غياب الصورة أحياناً، يصبح الصوت هو الذاكرة، هو الشاهد على ما لا يُرى. من خلاله، ينجح العمل في خلق عالمٍ متخيل نابض بالخوف، يختصر صرخة جماعية لوطنٍ خُذل مراراً.
فيلم عن الانفجار الإنساني والعاطفي والضمير
وفي عمق الحكاية، ينبش الفيلم في ثنائية الخيانة والفساد. ليست الخيانة هنا خيانة العائلة فحسب، بل خيانة الإنسان لإنسانيته، وخيانة الدولة لناسها. عبر تفاصيل صغيرة، ومن خلال الذبذبات التي يبثّها القدر، يلمّح العمل إلى المسؤوليات المطموسة، وإلى المصالح الضيقة التي صنعت الانفجار، وجعلت من الألم مصيراً جماعياً.
"صوت آب" قد يكون فيلماً توثيقياً يختصر مأساة كل القصص في انفجار المرفأ وهو أكثر من دراما إنسانية، بل اعترافٌ مؤلم بلغة السينما. هو محاولة لإعادة بناء الذاكرة من خلال الصورة، وللتحرّر من ركامٍ رمزيّ وجسديّ في آن.
إنه عملٌ عن الذاكرة التي لا تموت، عن الأب الذي يجسد مدينةً بأكملها تنزف بصمت، وعن السينما التي تملك وحدها القدرة على إعادة صوتٍ خُنق في لحظة الانفجار.
فيلم "صوت آب" من انتاج وإخراج وكتابة وبطولة مارسيل غصن.