"ألو حياتي "، بقي صوت الفنانة الراحلة هند أبي اللمع عالقاً في السمع، بالرغم من انقطاع السلك.
رنة ضحكتها ما زالت ترن في الذاكرة بالرغم من كل هذا الفراق. جميلة الشاشة التي لم تعطِ رقتها إلى أي ممثلة بعدها. صبح وجهها نستعيده بالنضارة بعد 33 سنة غياب.
صوتها تميزه بين ملايين الأصوات، نبرته لا تخالط سوى رنين الذهب. شعرها الداكن الأسود كغيمة تكتسح الكون. عيناها ذاك اللص الأسود يسرقك حتى من نفسك.
هند أبي اللمع الأميرة في حسبها ونسبها. والأميرة في أدائها وحضورها. يوم اكتسحت الأوطان نجمة كان من الصعب أن ينتشر الضوء لكن وصلت مع أفواجه بزخم لا يعرفه سوى الكبار.
أعطت الشاشة الصغيرة لوناً إضافياً، يوم كانت الألوان مقتصرة بالأبيض والأسود. فمدّت سحرها ألقاً فاق الخيال. شغلت الناس من المحيط إلى الخليج فصارت أمثولة العشق في المخيّلة.
الموهبة الفذّة
تمثل كأنها لا تمثل، تغرف من تلك العفوية وترميها على المشاهد فيظن أن ما يراه فصولاً من حياة عاشها أو مشهد مرّ عليه في غفلة. عندما قدمت مسلسل " لا تقولي وداعاً" حيث كانت البطلة المريضة جداً. ظن المشاهدون أنها فعلاً مريضة وقد أصابها مكروه فاشتعلت الاتصالات من كل حدب وصوب بتلفزيون لبنان ليطمئنوا على محبوبتهم الجميلة. ما اضطرّ بالمذيعة المتألقة غابي لطيف أن تطل في توضيح عبر التلفزيون وتقول إن هند أبي اللمع بخير.
الحب المحمول على الراحات
حقيقية إلى حد الشفافية. جميلة كواحة خضراء قادرة أن تسقط جميع الفوارس. يوم زارت الأردن مرة حملها الشعب وهي بداخل السيارة تقديراً عن ذاك الحب الغامر.
نجوميتها في ذاك الزمن الأصيل استطاعت أن تقارع الكبار وتتفوق عليهم. في لبنان كانت الأولى دون منافس وفي الدول العربية كانت بين الأوائل مثل شادية ومديحة يسري وشمس البارودي وفاتن حمامة وسعاد حسني وغيرهن. واستطاعت أن تبقى على اشعاعها دون خفوت حتى خطفها الموت في 3 أكتوبر 1990 عن عمر 47 عاماً بعد أن عانت مع مرض القلب ولم يستطع الأطباء إسعافها.
نشأة ثقافية
ولدت في 20 تشرين الثاني 1943 أي قبل يومين فقط من نيل لبنان استقلاله، والدها هو الأمير محمود أبي اللمع، ووالدتها نجلاء الراسي من بلدة الشيخ طابا في عكار. تلقت هند دراستها في مدرسة «زهرة الإحسان» وكان أستاذها جورج جرداق الذي لقّبها: «بلوطة تشرين» لأنها كانت قوية كالبلوطة. فازت بلقب ملكة سينا دوريان وعمرها 17 ربيعاً.
كانت مثقفة جداً وقارئة نهمة وعملت في مجال الترجمة ورفضت عدة أعمال تمثيلية في نشأتها لأنها تتحدر من سلالة الامراء.
بدأت مسيرتها الفنية عام 1964 وعملت كمساعدة مخرج في تلفزيون لبنان. يومها كان هذا التلفزيون في أوج عطائه وكانت هي من هذه التركة الثمينة التي قدمها ووصلت أعماله إلى كافة الدول العربية.
وفي العام 1970 قامت بأول عمل فني تمثيلي في مسلسل «الغروب» بعد تخرجها من الجامعة اليسوعية (إجازة في السياسة والاقتصاد) بعد زواجها من المخرج أنطوان ريمي.
الثنائية البراقة
قدمت هند أبي اللمع أجمل أعمالها مع الممثل الكبير عبد المجيد مجذوب وخلقا توأمة وثنائية لم يعرفها أي ثنائي لأخر لحد، كان يظن المشاهد أن هناك علاقة حب حقيقية تجمع بينهما وأن هذا الانصهار والتماهي في تقديم الأدوار لا بد أن يكون حقيقياً. وبهذه الثنائية خلقا حالة فنية براقة نافست وغطت على الدراما السورية والمصرية حينها. ومن أعمال هذه الثنائية مسلسل حول غرفتي في عام 1973 و"ألو حياتي" 1974 و"عازف الليل" 1976و"الانتظار" 1979و"لا تقولي وداعاً"1982.
اما اشتراكها مع إبراهيم مرعشلي في "المعلمة والأستاذ" في عام 1984، يغلب عليه طابع الكوميديا الذي بقي يبث حتى الامس القريب عبر شاشة تلفزيون لبنان يتصدر الرقم الواحد. وهو الأثر الانصع الذي جعل الجيل الجديد يعرف من هي هند أبي اللمع. لكن حقيقة نجوميتها وأبداعها كانت في الدراما وفي الأعمال التي قدمتها قبل ذلك.
متطرفة وعفوية
ورغم أنها حملت لقب أميرة منذ طفولتها وتوّجها الجمهور لاحقاً "أميرة الشاشة الفضية"، إلا أنها كانت تحرص على لعب دور الزوجة والأم وتفضّل البقاء في بيتها مع ولديهما ساسين وربيع. تقول في احدى لقاءاتها بأنها لا تحب الاعمال المنزلية ولا الطبخ وتفضل القراءة على ذلك. أقرب أصدقائها كانت الممثلة جورجيت نابلسي والفنان فريد الأطرش.
بالرغم من رقتها وعفويتها إلا أنها في بيتها كان صارمة مع أولادها وحريصة جداً عليهم حتى انها كانت تمنعهم من متابعة مسلسلاتها لأنها كانت تبث بعد الوقت المحدد للنوم حسب قول أبنها د. ساسين في إحدى اللقاءات..
اتسمت حياتها بالتشاؤم ووصفت بالمتطرفة بكل شيء. كانت تتمنى لو خلقت رجلاً. ولا تحب الزواج لأنه مسؤولية كبرى وجسيمة خاصة في لبنان. وتعتبر أنها خلقت لتكون ممثلة أو مذيعة ربط برامج.
لقاء هند بالمخرج أنطوان ريمي لقاء حاسم في حياة الثنائي الفني والعاطفي. فقد أحب طوني هند فتزوجها واقتحمت عالم التمثيل عام 1970 في مسلسل "غروب".
النهاية المرّة
يقول حفيدها أنطوان في أحدى المقابلات بعد أن اشتد عليها المرض في لبنان ولم يجد الأطباء علاجاً لها فكانت مصابة بمرض تصلّب الجلد المنتشر (diffuse scleroderma) في العام 1985 أصـاب عضلة قلبها. مثّلت في الفترة الأولى من مرضها، لكنها تعبت كثيراً خلال تصوير مسلسلها الأخير "هنادي".
فسافرت الى لندن مع صديقتها الفنانة الكبيرة سميرة توفيق للعلاج واستقرّت بعدها في منزل دنيز مساعدة العملاق الراحل فريد الأطرش. ابتعدت عن الناس وبقيت في منزلها، إذ تغيّر شكلها بسبب علاجها بالكورتيزون. لترحل في فجر 3 أكتوبر عام 1990.
ستبقى هند أبي اللمع سنديانة الفن اللبناني التي يلجأ اليها كل من أراد ظلاً وارفاً وجذعاً يحفر عليه أسمه. فهي قامة تجذرت في الوجدان وفي تاريخ الفن اللبناني.