"فيلم البحر الأبيض المتوسط" للكاتبة والمخرجة الفلسطينية مهى الحاج، الحائز على جائزة أفضل سيناريو في برنامج "نظرة ما" لمهرجان "كان" السينمائي، يُعرض على منصة "نتفليكس".
فيلم بالألوان لكن روحه بالأبيض والأسود. شخصياته من الرجال، باردة مقتولة من الداخل. لكنها تغلي بالفشل والانهزام. سياق يخرج عن المألوف في عالم الأفلام ولا يمتّ لما هو سائد سواء في طريقة التصوير أو النص أو الشخصيات.
البصمة المغايرة
مسلك واحد يمشي في مجرى الأحداث القليلة فهو يعالج فكرة الحياة والموت والسعادة بكاميرا مسلّطة على الداخل وليس على المحيط. فالحاج تظهر عمق الرجل من زاوية جديدة غير اعتيادية. ذاك الرجل الذي يقوم بمهمات المرأة في البيت. يطبخ يكنس ويجلي ويغسل ويكوي. رجل عاطل عن العمل وزوجته هي التي تخرج للعمل وتصرف على المنزل. الرجل عندها خائف ومُحبط ومُترهل ولا يقدر على المجابهة وهذا سر جديد لم يتطرّق له سوى من يحب أن يترك بصمة مغايرة.
رجال متناقضين في الخارج مجتمعين من الداخل
البطلان هما وليد وجلال، شخصيتان متناقضتان لكن في داخلهما يلتقيان جداً. وليد الرجل الهادئ الذي ترك عمله في البنك ليكتب رواياته لكن لا يجد الإلهام ولا يستطيع الكتابة. يحب بيته وأولاده لكنه لا يعرف كيف يكون سعيداً. وزوجته الممرّضة هي التي تصرف على البيت. وليد هذا مصاب بمرض الكآبة ويتعالج منذ عامين لكن دون جدوى. فيضع أمام عينيه الموت ويريد أن يتخلّص من حياته دون أن يترك هذا الموت أثراً سيئاً على أطفاله.
وجلال الجار الذي لا يلتقي معه فهو يحب الموسيقى العالية والصيد والعبث والناس ومعرفة النساء والتعامل مع مافيات غير مفهومة. يُهدّد بالموت والقتل نتيجة أفعاله وديونه ويبدو غير مهتم ولا يمنعه من الشرب وسماع جورج وسوف وملحم بركات بصوت مرتفع غير آبه لكل ما يجري.
وليد يفضّل الوحدة والهدوء. ومشغول بفكرة الوطن والاحتلال والجغرافيا والتاريخ. يعيش بسكينة في عائلة يحبّها وتحبّه فوالديه إلى جانبه دوماً مكترثين لكل شؤونه. بينما جلال يعيش حياة الزعران لا يأبه لكل ذلك ولا يهمّه ما ستؤول إليه الأوضاع في فلسطين سواءً تحرّرت أو بقيت تحت الاحتلال.
هذا التناقض في شخصيات الأبطال هو الذي سيجمع بينهما بطريقة غريبة فيصبحان من أعز الأصدقاء. لأن التماهي في الأعماق يبدو واحداً.
الرجل كما لم نراه سابقاً
تعالج الحاج الدواخل التي لا يمكن فكّ ألغازها. تقتصد في السيناريو وتسهب في تصوير الأعماق وترصّ حوارها بشكل متقن فلا يقع منه كلمة دون مكانة أو قيمة.
أول مرة نرى الرجل من هذه الزاوية حيث البطل يعيش الهزيمة ويريد الهروب من هذه الحياة التي تبعثره ولا يعرف كيف يجمع قواه. في الفيلم هناك الرجل المُحبط والآخر القوي الذي لا تهزّه المصائب. لكن سرعان ما تأتي نهاية الفيلم لتخبرنا بأن كل ما نراه وراءه شيء آخر.
يقع الفيلم في مكان ما في دائرة الفانتازيا والغرابة وهذا ما يميّزه ويجعل منه مختلف في المعالجة حيث يتم الدخول إلى عالم الرجل من ناحية لم يتطرق لها. وتُظهر البعد الإنساني والضعف والترهّل الذي يعيشه الرجل.
السواد في هذا العمل ليس معلناً ولا فاقعاً بل هو ملفوف بالحياة والضوء. وهنا قدرة المخرجة على تصوير هذه العتمة المقنعة بالحياة. وتختصرها بكلمة تقول: الموت والانتحار ليس قوة بل "جبانة" بينما الحياة هي التي تحتاج القوة حتى نعيشها.
تدور الأحداث في منطقة حيفا حيث يصعب التنبؤ بمجرياتها وكيف ستتطور. ويبقى كل شيء مبهم ومتغير فالشخصيات تتغير أجواءها ومساراتها باستمرار. الحبكة مرصوصة الجوانب وغامضة وهذا ما يعطي عنصر المفاجأة المتكرر.
الفيلم استمد اسمه من مرض ينشأ من اضطراب وراثي مجهول السبب يُصيب عادةً سكان مناطق حوض البحر الأبيض المتوسط، وقد شخّصت الطبيبة الروسية بإن إبن وليد يعاني منه بعد أن عجز الأطباء من معالجته ولم تظهر الفحوصات المخبرية أي سبب لأوجاعه.
ويؤدي دور البطولة في الفيلم، كل من: عامر حليحل، أشرف فرح، عنات حديد، سمير إلياس، شادن قنبورة، سينيثيا سليم، صبحي حصري، ثريا يونس، يوسف أبو وردة، نهاية بشارة وآخرين.