TRENDING

في كل مرّة يصفعني الفن بكف الخفوت وفي كل مرة يُسرق مني الفرح واليقين أعود لمشاهدته.

كما المجوهرات تُلبس مراراً دون ضجر، هكذا يعيدنا فيلم "أفواه وأرانب " إلى خامات الأصالة والبريق، نعيد مشاهدته كأنه عرض للتو. لنكتشف أنّ الفن يعّمر بقدر ما يحمل من جمال.

وجه فاتن حمامة المغسول بالبراءة والأنوثة، وصوتها الفريد القادم من الأعماق كصدى الروح. ملامح السيدة تتبدّل كغمامة فتظهر بياض نفنافها أو تتكثف لتنذر بهطول جارف.

هذا اللطف المنثور فوق المأساة والحاجة، وتلك الشهامة الفاتكة بكل أنواع التقاليد العتيقة. فاتن حمامة" نعمة" الرقيقة كسنبلة قادرة أن تُطعم أمة ومحمود ياسين "سي محمود" الوسيم الثري المنتفض على كل الأفكار السائدة، يكسر بعظمته المألوف ويقترن بخادمة. لكنها ليست أي خادمة، إنها امرأة الخير المجندة بالذكاء والفطنة والمعجونة بالتعب والعطاء.

فيلم عتيق لا يذبل كل حركة فيه تحفر ثلماً في الذاكرة، وكل كلمة تهبط في القاع وتركد هناك كقاموسٍ حياتيّ ومعجمٍ يمكن العودة اليه عندما تتعقد مسائل الحياة العويصة.

فيلم "أفواه وارانب" عمره 46 عاماً وسيبقى تحفة في رفوف الفن السابع، تعود إليه الأجيال لتكتشف أن الحاضر يتقاطع مع الماضي في فقره ومشاكل ناسه، فهناك الشجاع كما سي محمود وهناك البلطجي كما السيد طنطاوي، وهناك المتخاذل كما عبد المجيد "فريد شوقي"، وهناك البراءة المندفعة المستعدة للقتل من اجل إحقاق الحق.

هذا الفيلم هو التعاون الثالث بين سيدة الشاشة وفتى الشاشة. ففي أوائل السبعينيات عادت الفنانة فاتن حمامة إلى السينما بعد فترة غياب وقد اصطحبت معها محمود ياسين كوجه جديد يفيض وسامة ودماثة، ليشاركها بطولة فيلمها "الخيط الرفيع" عن قصة إحسان عبد القدوس، وتشاركه فيلمين آخرين هما "حبيبتي" 1974، و"أفواه وأرانب" 1977. هي التي تكبره بعشر سنوات استطاعت أن تتخطى فارق الزمن وتظهر كحبيبة لا يعيبها العمر، بل تتواءم مع بطلها بتماهي الأداء وذلك الجمال الحريري الناعم الذي اتصفت به.

أسرار حري بنا أن نعرفها

اسم هذا الفيلم مستوحى من الانفجار السكاني وكثرة الأفواه التي تحتاج خبزاً كثيراً ومعاجن ومطاحن، وأرانب لأنها تتناسل وتنجب بكثرة. لا يوجد في نص هذا الفيلم كلمة حشو أو عبارة زائدة. هو مخيّط بإبرة من يحيك عباءة يريدها أن تصمد إلى الأبد. فالكاتب سمير عبد العظيم كتب تحفة فنية كل حرف فيها ينفخ بوق الإلهام والمخرج الكبير هنري بركات ترك خلفه هذه الرائعة المعمرة.

ايناس الدغيدي التي شاركت في الفيلم لأوّل مرة كممثلة، قالت عن إمكانية دخولها عالم التمثيل مرة ثانية بعد ظهورها بدور الفتاة المتعجرفة خطيبة محمود ياسين «صعب علي أن أمثل حاليًا، وأنا أساساً أكره فيلم "أفواه وأرانب" ولم أحبه يوماً، كنت مساعدة مخرج وقتها وأنقذت موقفاً بسبب عدم وجود الفنانة في هذا الدور وفاتن حمامة هي من اختارتني للقيام به وقالت "لبّسوا إيناس"."

أما رجاء حسين شقيقة فاتن حمامة في الفيلم، خلال ظهورها في برنامج "ماسبيرو" مع الفنان الراحل سمير صبري قالت: "لما جينا نعمل"أفواه وأرانب"، كان مفهومي أن الشخصية التي أقدمها هي لسيّدة تنجب كثيراً، وبالتالي تضع الماكياج وتصفف شعرها بطريقة معينة، وكذلك في ملابسها التي تظهر بها أمام زوجها، وعلى هذا الأساس، أعددت نفسي، وذهبت إلى الاستديو".

وتابعت "بمجرد دخولي، فوجئت بثورة غاضبة من فاتن حمامة، وهي تقول لي "إيه ده لا لا يا رجاء"، وطالبتها بتوضيح وجهة نظرها، ثم ردت قائلة "هما فقرا قوي، واللي انتي عاملاه ده غلط، الشخصية بتقول كذا وكذا"، وبعد هذا قلت لها "مش هاصور معاكي اليوم، ولا مشهد واحد"، فذهبت فاتن حمامة، إلى المخرج هاني بركات، وطالبته بالموافقة على عودتي إلى منزلي".

وتضيف رجاء:" عدت إلى منزلي، وأحضرت جلباباً قديماً، وقمت بتضفير شعري، ووضعت عليه منديلاً، بدون الخرز وأي بهرجة، وذهبت في اليوم التالي إلى الاستديو، وبمجرد أن دخلت وقلت صباح الخير، قامت الفنانة فاتن حمامة من سعادتها، باحتضاني وتقبيلي، وقالت الآن بات الدور جاهزاً."

أما فريد شوقي الذي لعب دور الرّجل السكّير الذي ينجب كثيراً، ولا يتحمّل مسؤولية، فاعتبر أنّ فيلم "افواه وأرانب" لم يعطه حقه وكان دوره قصيراً وغير فعالاً، وكان يتمنى أن تكون مساحته أكبر، رغم أنّ عبارة فريد شوقي في الفيلم ما زالت حتى الآن تجد أصداءً وتحوّلت الى مقولة شعبية " السكران ح يفوقلك يا بطاوي".

حصد فيلم "أفواه وأرانب" العديد من الجوائز منها: جائزة مهرجان طهران عام 1977، جائزة أحسن فيلم وجائزة أحسن إخراج (بركات) في المسابقة التي أقامتها وزارة الثقافة المصرية عام 1978 أيام أنور السادات. وجائزة أحسن فيلم من المركز الكاثوليكي عام 1978 أيضاً.

عمالقة تلك الأعمال رحلوا وظلّوا كباراً تتسع لهم آفاق الدّهر.

يقرأون الآن