لا يمكننا فهم تميّز الباحث الموسيقي السوري د. سعد الله آغا القلعة ( 1950- 2025) الذي رحل عن دنيانا في المغترب بعد صراع مع المرض، من دون أن نلقي الضوء على بيئتين موسيقيتين، نشأ فيهما، فاكتسب منهما علمه وثقافته فصقلت موهبته وتألقت متجلّية في البرامج التلفزيونية العديدة التي أعدّها وقدّمها، ونال عليها جوائز عدة.
ولد الباحث الراحل في مدينة حلب الغنية بالأعلام الموسيقية والإرث الموسيقي، ومن هؤلاء الأعلام والده الموسيقي والباحث الطبيب فؤاد رجائي آغا القلعة، الذي دَرَسَ الموسيقى في معهد فن ويردي في استانبول، بشكل موازٍ لدراسته وتخصصه في طب الأسنان فيها، وكان من أساتذته رؤوف يكتا بك ومسعود جميل بك، حيث تأثر بأبحاث رؤوف يكتا بك في السلم الموسيقي الشرقي.
أسس د. فؤاد رجائي في عام 1938 أول جمعية للموسيقيين بحلب، وانتخب رئيساً لها لمدة طويلة. افتتح معهداً موسيقياً خاصاً ومجانياً لأول مرة في حلب عام 1949، موله من موارده المالية الخاصة كطبيب أسنان، وقد ضم المعهد كبار أساتذة الموسيقى في حلب، أمثال الشيخ علي الدرويش، والشيخ عمر البطش، وأستاذ الكمان من أصل روسي ميشيل بورزنكو، وأستاذ القانون شكري الإنطكلي، وأستاذ العود محمد رجب، وقام بتدريس التاريخ الموسيقي في المعهد. إلاّ أن هذا المعهد قد تم تأميمه من قبل الحكومة السورية آنذاك عام 1956 لكن د. فؤاد رجائي ظل مديراً له حتى عام 1959.
وإدراكاً منه لأهمية النشر والتوثيق وتحريض الإنتاج الجديد في ترسيخ واستدامة مكانة الموسيقى العربية، أسس إذاعة حلب، وبقي مديراً لها حتى عام 1956، حيث تفرغ لإدارة المعهد الموسيقي ومن خلالها وثّق لعدد كبير من الموشحات والأدوار القديمة صوتياً، وشجع المطربين والملحنين على الإنتاج الجديد، كما قدم البرامج الإذاعية التي عنيت بنشر الثقافة الموسيقية. وفي جعبته العديد من الأبحاث الموسيقية والأدبية.
المتأمل لحياة الراحل د. سعد الله أغا القلعة يجدها على نسق حياة والده، فقد دَرَسَ في المعهد الموسيقي الموجود في المدينة، والهندسة المدنية في جامعة حلب، ثم الدكتوراه في فرنسا، التي عاد منها 1981 أستاذاً في كلية الهندسة بجامعة دمشق، ثم بدأ المشاركة في تقديم ثقافته الموسيقية في المهرجانات والمراكز الثقافية، فبدأ يحقق حضوراً لافتاً بغنى ثقافته وسلاسة أفكاره، لاسيما وأنه كان عازفاً على آلة القانون الصعبة، التي كان عزفه عليها ليس للاستعراض، بل كوسيلة إيضاح لبعض ما يذهب إليه في محاضراته. ويذكر أنه بارع في الارتجال على هذه الآلة الجميلة، بشهادة الاختصاصيين في العزف والنقد الموسيقي.
واتّسع جمهور آغا القلعة عبر عدد من البرامج التلفزيونية في سوريا ومصر منذ أواخر ثمانينيات القرن الماضي، مثل "العرب والموسيقى"، "عبد الوهاب مرآة عصره"، "أسمهان"، "حياة وفن فريد الأطرش " ، "نهج الأغاني"، "المعلوماتية".
وتوج آغا القلعة مشاريعه في التراث الموسيقي العربي، بإطلاقه عام 1992 كتاب "الأغاني الثاني"، والذي استمد اسمه من كتاب التاريخ العربي الشهير "الأغاني" لأبي فرج الأصفهاني. وقد وضعه على موقعه الإلكتروني وصفحته الخاصة على فيسبوك.
ويستهدف مشروع "كتاب الأغاني الثاني" وفق مؤلفه الراحل، تجسيد أهم عناصر الرصيد الموسيقي العربي، لتُدرسَ وتُحفظَ وتكون أساساً لنهضةٍ موسيقيةٍ جديدة، وقد ضم أهم 100 أغنية عربية.
كما أطلق الراحل د. سعد الله عام 2017 عبر صفحته على فيسبوك وموقعه الإلكتروني، مبادرة موسيقية هامة بعنوان "على طريق تشكيل عناصر نهضة موسيقية عربية جديدة"، وقد خصصها لاختيار ملحنين شباب، كما أسس أيضاً مجموعة " أوج " التي هدفت إلى مواكبة مبادرات التأسيس لنهضة موسيقية عربية جديدة، من خلال إعادة تشكيل عناصرها الإبداعية، ومنظومتها الداعمة للإبداع. وكان قد أعلن نتائجها بعد سنة كاملة.
وكان آخر مشروع بدأه الراحل وتابعنا بعضاً منه، كتابه عن "حياة وفن فيروز والأخوين رحباني". الكتاب من أربعة فصول، في نسخة متعددة الوسائط، فيها المادة العلمية المكتوبة، مرفقة ببعض الصور الفوتوغرافية، وبعض الخرائط السياسية، وبعض مقاطع الفيديو المقتبسة من أفلام ومسرحيات لعبت فيروز بطولتها، وهي من تأليف وألحان الأخوين رحباني.
يمتد الجزء الأول من الكتاب بين عامي 1926 – 1948، وحمل عنوان " التحولات الكبرى تولِّد الإبداعات الكبرى".
والكتاب جهد تسع سنوات اشتمل حتى لحظة بدء نشر فصوله، على توثيق 1132 سجلاً للأعمال الغنائية للسيدة فيروز، في نظام معلومات الموسيقى العربية، وتوثيق أكثر من 720 دراسة أو مقالاً أو فصلاً من كتاب عن المدرسة الرحبانية، بشكل رقمي، ما سمح بإجراء البحث في نصوصها، وبتقاطع المعلومات فيما بينها، بهدف حسم التناقض الذي كثيراً ما برز بينها، وبالتوصل تالياً إلى نتائج جديدة.
وقدّم الراحل د. آغا القلعة كتابه بعرضٍ للتحولات الكبرى التي حلت بالمنطقة العربية، في بدايات القرن العشرين، بُعيد انتهاء الحرب العالمية الأولى، ولما سببته تلك التحولات، من وجهة نظره، من توليد لإبداعات كبرى، على المستويات السياسية والفكرية والفنية والأدبية عموماً، والموسيقية خصوصاً، تلك الإبداعات التي وجدت تجلياتها في تثبيت موقع القاهرة، كمركز إشعاع موسيقي جديد على شبكة موسيقى المدن العربية، بعد تأثّر مركز حلب، بفعل عوامل سياسية واقتصادية، جعلته يتحول لمركز اختزان للتراث الموسيقي العربي، وفي نشوء مركز بيروت، في مسار موازٍ لمركز القاهرة، غير مسبوق في تاريخ مراكز موسيقى المدن العربية، إذ كانت المراكز، تتالى ولا تتوازى!. ولعل هذا الكتاب قد اكتملت فصوله وينشر بعد رحيله كاملاً.
نال الباحث الراحل آغا القلعة في حياته، جوائز عديدة على برامجه ومسيرته البحثية الفنية، فقد حاز على الميدالية الذهبية كأفضل مقدم برامج تلفزيونية في عام 1996 في مهرجان القاهرة للإذاعة والتلفزيون، وعلى جائزة زرياب في الموسيقى في عام 2016.