في عام 1958، وبينما كانت أخبار معاناة الفنانة الكبيرة زينب صدقي تنتشر همسًا في الأوساط الفنية، قرر الصحفي اللامع جليل البنداري أن يكشف الحقيقة. ذهب إلى شقة الفنانة القديرة ليجري معها حوارًا مؤلمًا نُشر في مجلة "آخر ساعة"، فكانت النتيجة شهادة موثقة على كيف يمكن أن ينهار تاريخ كامل في لحظة جحود.
"باعت المقبرة التي كانت ستُدفن فيها"
هكذا بدأ البنداري مقاله بعبارة تصفع القارئ:
"باعت زينب صدقي المقبرة التي بنتها لتُدفن فيها... وضاع ثمن المقبرة في تكاليف الحياة... ثم باعت مجوهراتها قطعة بعد قطعة، ولمّا لم تجد ما تبيعه، عرضت سيارتها الكرايسلر وباعتها بثلث قيمتها... ضاع كل شيء، ولم يتبقَّ لها اليوم سوى أثاث غرفتين وعدد من الصور واللوحات التي التقطها لها المصورون أثناء أدائها لأدوارها المسرحية الخالدة."
الدموع تسبق الكلمات
يقول البنداري إن زينب صدقي انفجرت بالبكاء فور أن استقبلته قائلة:
"أنا لا أريد شيئًا سوى أن يصل صوتي للناس."
ثم مسحت دموعها واسترسلت في الحكاية التي تختصر مأساة جيل بأكمله:
"ذهبت أول الشهر لصرف معاشي من الفرقة القومية، فنظر إليَّ الصراف بعد أن تفقد الكشوف وقال: أنا آسف يا مدام... معاشك انقطع."
لم تتلقَّ صدقي أي إخطار، ولا حتى ورقة صغيرة تنبهها بالأمر.
"كان بإمكانهم أن يوفروا عليّ هذه الصدمة بإرسال خطاب بسيط لا يتجاوز عشرة مليمات."
صرخة في وجه الغياب والخذلان
وعن رد فعلها وقتها، قالت وهي تبكي:
"رفعت يدي إلى السماء وقلت للصراف: اللي بيوصل العيش هو اللي فوق، واللي بيقطعه هو اللي فوق... الناس اللي تحت مالهمش ذنب."
ثم استسلمت لذكرياتها، فاستحضرت شخصية طه حسين عندما كان يشرف على الفرقة المصرية، قائلة:
"طه حسين كان يستدعيني ويستشيرني في كل كبيرة وصغيرة تخص المسرح، من الروايات إلى الممثلين... كان يحترمني كإنسانة وفنانة."
"لم يعرفني مدير الفرقة!"
تروي زينب صدقي موقفًا مؤلمًا هز كيانها:
"ذهبت ذات يوم إلى مقر الفرقة لأشاهد عرضًا جديدًا، فدخلت من دون تذكرة. سأل المدير عامل الباب: من هذه السيدة؟ فقال له: دي الأستاذة زينب صدقي. وللأسف، لم يعرفني... وأنا صدقته، لأن من يعرفني كان سيستقبلني بنفسه، كما كان يفعل مديرو الفرق الأوروبية حين كنت أزور المسارح هناك، لم أكن أدفع تذكرة واحدة في أوروبا، بينما دفعت في مصر."
"لماذا أُحلت إلى التقاعد؟"
تساءلت زينب بمرارة:
"لماذا أحالوني إلى المعاش؟ كبار فناني العالم يستمرون في العطاء حتى الرمق الأخير... سارة برنار مثلت وهي برجل واحدة، هربرت مارشال بساق خشبية، وليونيل باريمور وهو على كرسي متحرّك."
ثم أضافت:
"الكرسي الذي يجلس عليه مدير الفرقة الآن، والمكتب، وربما القلم الذي وقّع به قرار قطع معاشي... كلها اشتُريت من عرقي ودمائي وعرق زملائي."
خاتمة تُدمي القلب
أنهى البنداري حواره بكلمات موجعة تلخص حجم التهميش الذي تعرضت له واحدة من أبرز نجمات المسرح المصري:
"مرتب زينب صدقي لا يبلغ مرتب العامل الذي يغيّر ديكورات المسرح بين فصل وآخر. كانت تحفظ روائع الأدب العالمي وتؤديها على المسرح بوقار الملكات. ولو اختارت طريق الإغراء، لامتلكت نصف عمارة الإيموبيليا."
من هي زينب صدقي؟
وُلدت زينب صدقي عام 1895، وبدأت رحلتها مع المسرح مبكرًا، لتصبح إحدى العلامات البارزة في تاريخ المسرح العربي. أدّت أدوارًا مسرحية خالدة اقتبست من الأدب العالمي، وامتلكت صوتًا مسرحيًا مميزًا وحضورًا ملكيًا على الخشبة. ورغم إبداعها، اختارت طريق الالتزام والاحترام الفني على حساب الشهرة السريعة والثراء السهل.
لكن النهاية لم تكن على قدر البدايات، إذ تجاهلها الجميع، فباعت حتى المقبرة التي كانت ستُدفن فيها، فقط لتحيا بكرامة.