بعد أكثر من عقدين على عرض فيلم Save the Green Planet! (2003)، يعود المخرج اليوناني يورغوس لانثموس ليروي القصة من زاويته الخاصة في فيلمه الجديد Bugonia (2025)، مقتبسًا عن العمل الكوري الأصلي بأسلوبه المميز ولكن برؤية أكثر نضجًا وهدوءًا.

بين الجنون والرسالة: نضوج فني طال انتظاره
تساءل كثيرون قبل عرض الفيلم: كيف سيتعامل لانثموس مع نص أصله مجنون وعبثي؟ الإجابة جاءت في هذا العمل. المخرج، المعروف بجرأته وتطرفه البصري والموضوعي، تخلى أخيرًا عن أسلوبه الصادم في تمرير الرسائل عبر مشاهد جنسية غريبة، ليقدم فيلمًا يثبت أنه قادر على التعبير دون إثارة مفتعلة.
لانثموس، الذي اشتهر ببناء "علامة شخصية" واضحة في أعماله، بدا وكأنه يحاول التحرر منها في Bugonia. ومع أنه لم يقع بعد في فخ التكرار مثلما حدث مع ويس أندرسون، إلا أن ملامح اللعب على المضمون بدأت تلوح في أفقه الفني، وهو ما يجعل مستقبله الإخراجي مثيرًا للفضول وربما للقلق أيضًا.

حبكة الانتقام تحت ستار المؤامرة
على الرغم من ترويج الفيلم كقصة مؤامراتية، إلا أن جوهره الحقيقي يدور حول الانتقام. يقدم لانثموس خلفية لعلاقة الشخصيتين الرئيسيتين، تيد ودون، التي تشبه إلى حد كبير العلاقة المليئة بالتوتر من فيلم Good Time (2017) للأخوين صافدي.
العلاقة بين تيد ودون لا تقوم على الأخوة بقدر ما تقوم على وهم السلطة والسيطرة. تيد، الذي يزدري الشركة التي تعمل بها إيما ستون، يواصل العمل فيها بخضوع واضح، مما يعمق شعوره بالدونية ويغذي رغبته بالانتقام. نظريته حول "المؤامرة" ما هي إلا هروب من مسؤولياته وبحث عن سلطة مفقودة — وهنا يكشف لانثموس بذكاء الجانب النفسي للمنظّرين الذين يبررون فشلهم بسرديات كاذبة.

جنون مضحك ومجاز قاتم
مشاهد التحقيق والتخطيط والخطف بدت أقرب إلى الكوميديا السوداء منها إلى الجدية، حتى الربع الأخير من الفيلم حيث تنقلب الأجواء تمامًا. حس لانثموس الكوميدي غريب بالفعل، لكنه يملك قدرة مدهشة على الموازنة بين العبث والرمزية.
أما مشهد التعذيب، فكان تحية ضمنية إلى Frankenstein (1922)، مع لمحات من Poor Things ولكن بنسخة "نظيفة" وأكثر انضباطًا.

إيما ستون... من المسخ إلى الشريرة
تقدّم إيما ستون أحد أبرز أدوارها في مسيرتها، متحولة من الهشاشة إلى السلطة في أداء لا يقل عن أدائها الأوسكاري السابق. غير أن المفاجأة الكبرى جاءت من جيسي بليمنز، الذي قدم أداءً مذهلًا ومتعدد الطبقات جعله محور الفيلم الحقيقي.

رمزيات لاذعة ونهاية عبقرية
تضمّن العمل إسقاطات اجتماعية وسياسية متعددة — من ذكر Death of a Salesman وانتقاد الرأسمالية، إلى رمزية النحل ككائنات منتجة لكنها خاضعة لعبودية فطرية. كما أن استخدام الأقنعة لشخصية هوليوودية شهيرة في جريمة الخطف حمل نقدًا ساخرًا لهوس الشهرة والنجاة.
من الناحية الإخراجية، قدّم لانثموس بصريات أكثر واقعية من المعتاد، متخليًا عن فوضاه إلا في الدقائق الأخيرة التي شهدت واحدة من أفضل النهايات وأكثرها دهشة في السنوات الأخيرة. النهاية، التي بدت وكأنها "تويست" من عالم آخر، يمكن قراءتها كمجاز اجتماعي أكثر من كونها خيالًا علميًا: إيما ستون ليست فضائية، بل تنتمي إلى طبقة النخبة التي تنجو دائمًا من الكوارث
Bugonia ليس مجرد إعادة إنتاج لفيلم كوري كلاسيكي، بل تجربة فكرية وفنية تبرهن أن لانثموس قادر على كسر قيوده دون أن يفقد هويته. إنه فيلم يُشاهد ويُناقش — وربما لا يُنسى بسهولة.