ليس فيروز فنانةً نحتفي بعيد ميلادها فحسب؛ إنّها العُمق الذي نتقاطع معه كلّ صباح، الحضرة التي ننهض عند حافّتها، والنسيم الذي يربّت على أرواحنا منذ تسعين عامًا.
منذ أن عرفنا الضوء، عرفناه ممزوجًا بصوتها. كأنّ الفجر نفسه لا يستطيع أن يفتح عينيه من دون أن يستند إلى “سألوني الناس”، أو “البنت الشلبية”، أو ذلك النداء البعيد في “رجعت الشتوية” الذي يجعل برد كانون أكثر قابلية للاحتمال.
تُطفئ فيروز اليوم 91 شمعة، لكن الحقيقة أنّها هي التي أشعلت فينا، طوال هذا العمر، ألف شعلة وشعلة. بنَت في داخل كل واحدٍ منّا وطنًا آخر: وطنًا لا يُقصف ولا يُنهك ولا ينهار. وطنًا تحرسه “زهرة المدائن” وتبلّله “نسم علينا الهوا”، وطنًا له نوافذ من الذاكرة وطرقات من الحنين.
لولا فيروز لكان هذا الكون ثقيلاً
أثقل بصمته، أثقل بصباحاته، أثقل بمدنه التي تفتّش عن معنى، وبقلوب أهلكها الضجيج.
كانت لتبقى الأيام بلا تلك الرقة التي ينساب بها صوتها، بلا ذاك الغزل الشفيف الذي يلمّع الأرصفة الحزينة، ويمنح الفجر سببًا لينهض.
ففيروز لم تُوسّع فقط الأماكن… بل وسّعتنا نحن.
فتحت في أرواحنا نوافذ لم نكن نعرف أنّها موجودة، وعلّمتنا أنّ الصمود ليس شعارًا في أغنية، بل مهارة تعيشها كلها:
من رحيل ليال، إلى معاناة هلي، وصولًا إلى الفقد الكبير لزياد…
كلّ هذا الألم كان كافيًا ليهزم جبلًا، لكنّها بقيت واقفة، راسخة، بصمتٍ يشبه الصلاة، وبقوة لا تحتاج إلى صخب كي تُعلن وجودها.
فيروز علّمتنا أن نكمل…
أن نتوازن فوق حافة الحياة، كما يتوازن صوتها بين الشجن والنور.
علّمتنا أنّ الجمال يحمي، وأن الفنّ قد يكون أحيانًا أقوى من الجرح.
ومع ذلك… هذا العام ليس ككلّ الأعوام.
هذا العام، تقف فيروز على أعتاب وجع جديد، وجع لا يُقاس ولا يُدوّى: رحيل زياد، الابن الذي كان يكمّل معها بناء صرحها الفني، ذلك المهندس الذي أدخل روحًا جديدة إلى مدائنها الصوتية، والذي شيّد معها جسرًا آخر بين الفنّ والحياة. زياد… الرحيل الذي ضاعف مراراتها، بعد رحيل ليال، وبعد مرض هلي الطويل.

كأنّ السنوات تثقل على كتفي السيدة، لكنّ صوتها يظلّ خفيفًا، هطولًا يليق بالسماء.
ومع كلّ ذلك، تبقى فيروز قادرة على أن تخلق من حزنها جمالًا، ومن فقدها صلاة، ومن وجعها نورًا صغيرًا يضيء في قلب هذا الشرق المتعب. نحن الذين نعيش في وطنٍ جريح، نحتاج إلى صوتها أكثر من أي زمن مضى؛ فهي ليست فنانة يوم، ولا عصر، ولا قرن… إنّها فنانة كلّ الأزمنة. عَبَرت الأرض، تخطّت الوطن، وشيّدت لنا وطنًا آخر نصحو فيه، ونختبئ فيه، ونعود إليه عندما يخوننا العالم.
فيروز اليوم ليست ذكرى ميلاد… إنّها ذكرى حياة. حياة أهدتنا القدرة على الحنين، على أن نحبّ ما نخسره، وأن نحبّ ما يبقى.
فهي وحدها القادرة على أن تقول للبنان وللعالم: ما زال في القلب مكانٌ يتّسع للصوت، وللصلاة، وللأغنية التي تقف في المنتصف بين السماء والناس.
كلّ عامٍ وروحكِ سلام، يا فيروز…
يا التي جعلتِ الزمن فكرةً أجمل، والصوت وطناً لا يُهدم.