"من كفرشيما للمدفون" يعيد يحيى جابر رتق الذاكرة، فما خفت منها أعاده نضراً بنص جارح مضحك على مسرح مونو.
وناتالي نعوم التي نعرفها بنتالو كبرت ولم تعد فقط الممثلة المرحة الخفيفة الظل بل صارت شخصية تتلبّس بنا بكل ما فينا من زمن أردنا اخفاءه، فعادت ونثرته أمامنا على طريقتها الفذة بالتعبير.
أطلت علينا "لورا" تروي حكايتها عن زوجها جبريال الذي صار غبريال المحامي المشهور بقضايا الطلاق وتدرج تطوره ليصبح كابي النسونجي، ولأنه متمرس في كل شيء تنمنم ليصير "ك".
وفي سردها المنفرد على الخشبة تلتقط ناتالي دهشتنا لتدخلنا في خضم ذكرياتها، ومعها نعيش رحلة وطن بطائفيته وساذجته وأوهامه، وهذه المرّة من المنطقة المسيحية الممتدة بين كفرشيما والمدفون.
من منبع الفن وبلدة فيلمون وهبي وعصام رجي وحليم الرومي وماجدة الرومي وماري سليمان وملحم بركات، وكل الزرع الطائفي والشرخ الوطني لم يشفع بوجود كل هذا الكم من الفن.
وتصل لورا المارونية المتزوجة من كابي الروم الأرثوذكس ابن الاشرفية والعائلة العريقة وبيئته التي دافعت عن المسحيين، ويبدأ الطحن في نص ينطلق من الذات ويشلحه على كل الوطن، ليصبح كل فرد معنياً بهذه الحكاية. ونعي أننا نحن الطحين ونحن العجين ونحن من يأكل كل هذا الخبز الفاسد.
بنص ذكي مشفّر بالواقع المرير، يتلو يحيى جابر ومعه نتالي نعوم قصتها مع زوجها النسونجي النظيف، الذي يخون زوجته في رحلة بين كفرشيما والمدفون، وخلال هذا المشوار نمر بكل المحطات لمدينة عاشت الحرب والأهوال والتشرذم.
يدخل الخاص بالعام والمسحيين بهجرتهم وتناقص أعدادهم وتقاتلهم، فنفق نهر الكلب الذي ظنوا أنهم دخلوا فيه للتحرير فدخل فيهم. ودير الصليب الذي شيده الأب يعقوب بات ضرورة للكثير من المسيحيين الذين أصابهم اللوس والهوس. وخلال هذا السرد المبكي والهاتف يرن رنة الخيانة من أعز صديقة لها.
ما يقارب ساعة ونصف من المونولوغ ونتالي تبوح بحياتها، ونحن بين الضحكة المرّة والدمعة المخنوقة نشاركها أسرارها ونغرق معها بحالنا التي كانت والتي صارت.
وكأن بها تصعدنا جميعاً إلى مسرحها لنتقاطع معها، أفكارها واحزانها وخيبتها وندور في فلكها الذي هو فلكنا، ونضيع في الإجابة التي طلبتها إلى أين نرحل في وطن ليس بوطن وفي علاقة زوجية ليست بعلاقة.
فالزوج خائن والصديقة المقربة خائنة والحبيب الأول في العصفورية بعد مقتل كل أهله في الحرب، والأب توفي والام في حالة نسيان مع مرض الزهايمر، واإببنة في فرنسا تعيش حياتها وهي تدور حول نفسها ولا تعرف طريقها.
في كل منا شيء من "لورا"، ويحيى جابر جَبَل نصه حتى يوقعنا جميعاً في جبلته ويفضي لنا حياتنا على مسرح نبكي ونضحك على حالنا، علنّا ننفد من هذه الدائرة التي تحيط بنا.