TRENDING
شادية ليست دلّوعة السينما بل حالة إنسانية لا تتكرّر

الفنانة القديرة الراحلة شادية

في الخمسين فرشت حصيرها على إحدى القمم واستراحت. ارتدت حجابها ووزّعت ثروتها على الجمعيات الخيرية وغابت في محراب التقوى والاعتزال. بعمر 16 السنة حملت موهبتها وراحت تقشرها أمام كبار صنّاع الفن آنذاك فأصيبوا بالذهول وصارت نجمة النجمات مخلّدةً أسمها في قلوب أجيال أتت وأخرى لم تأتِ.

شادية إبنة الأبيض والأسود وكل الألوان وتدرّجاتها. عصفت في أربعينيات القرن الماضي وبقت زوبعتها الجميلة تلفّ الوطن العربي حتى الثمانينيات، وعندما سكنت ركنها صارت محفورة في الذاكرة. النساء تُشبه بها. فنانة الصوت تُشبه بها. الأنوثة عندما تنهض من مخدعها تُشبه بها. عطر الشهرة يُشبه بها. لامعة العيون والوجه البدري والصوت الشادي، أصبحت رمزاً حتى إسمها ضاق عليها. باتت موجودة في كل فكر وحلم وموهبة.

شادية التي عمرت جبل الفن خاصتها بأكثر من 110 أفلام ستة منها بين الأفضل في تاريخ السينما المصرية. قامة خلّدها الوقت، وفن صار أسطورة عليه تركن أساسات النهضة الفنية. أما جمالها فهو مبتغى سيبقى يسيطر على العقول حتى آخر الأزمان ويقال هذه تشبه شادية ولكن في الحقيقة لا أحد يشبهها.

شادية ليست من فئة الكبار وحسب بل هي من فئة الخالدين. الكاتب الكبير نجيب محفوظ الذي قال عنها إنها دلّوعة السينما وفتاة أحلام الشباب لكنها لا تشبه بطلات رواياتي. هي نفسها صارت بطلة أفلام جميع رواياته التي صوّرت. وتراجع عن رأيه بها. استنفدت كل الصفات، أحبّوا أن يروها كدلّوعة ولقّبوها به، لكن هذا ظلم لها. هي أكبر من الدلع وأبعد من الأنوثة. هي فنانة بلبّها وقشرها وكل ما حباها الله من موهبة.

قالوا إنها لا تجيد تمثيل الأدوار الجدية والمركبة واختصروا أداءها بأدوار الحب والرومانسية والغناء. وعندما قدمت تلك الأدوار بعيداً عن شدو صوتها اتّضح أنها ممثلة ممتلئة، فعندما قدّمت فيلم "شيء من الخوف" أحد أهم كلاسيكيات السينما المصرية والذي يعتبر واحداً من أفضل الأفلام في تاريخ السينما، لم تغنِّ ولم تظهر بدور الدلّوعة. بل اعتبرها النقّاد في دور فؤادة تمثل مصر بأجمعها. استطاعت أن تجسّد صورة الواقع السياسي حتى جمال عبد الناصر نفسه وقع في حيرة من أمره هل هو المقصود في هذا الفيلم ومنع الفيلم وعندما أعاد مشاهدته مرة أخرى مع أنور السادات أقنع نفسه أنه غير مقصود بما يمثله هذا الفيلم من واقع حيث القوي المتسلط ينتهز الضعيف ويأكل حقه، وقالوا إن المقصود هو الملك فاروق وسمح بعرضه.

شادية ليست مجرد ممثلة مبدعة مرت في تاريخ الفن بل هي حالة من إنماء هي زاد لبلد نشأت فيه، هي عمارات وأراضي ومساكن وترع تفتح وعطش يروى. القرية التي صوّر فيها فيلم "شيء من الخوف" كانت عطشى ويأكلها اليباس. المنتج صلاح ذو الفقار الذي بنى هاوس المياه حتى تفتحه شادية نكاية بعتريس المتسلط هو الذي أدى إلى ري الأراضي فيما بعد وما الناس الذين يرقصون في الوحل خلال بث الفيلم سوى أناس القرية الحقيقيين الذين يرقصون فعلاً لأن أراضيهم ارتوت.

هذه السيدة التي حققت نجاحات وإيرادات عالية للمنتج أنور وجدي في أفلام ليلة العيد بعام 1949 وليلة الحنة بعام 1951 وتوالت نجاحاتها في أدوارها الخفيفة وثنائيتها مع كمال الشناوي التي حققت مداخيل كبيرة للمنتجين ولكل من حولهم. وبقيت لربع قرن نجمة الشباك الأولى يتهافت على التعامل معها كبار المنتجين الذين صنعوا زمن النهضة السينمائية. هي من أصول هذه النهضة الفنية والاقتصادية وهي أهم من دلوعة ونجمة هي سيدة مجبولة بروح الهية أعطت الكثير خلال فنها وخلال اعتزالها كانت ملجأ لكل اليتامى والمحرومين.

شادية التي ولدت وتحمل إسم فاطمة إلا أنها ذكرت في لقاء مع الإذاعة المصرية سنة 1963 أنها هي من اختارت اسم شادية لنفسها وذلك في فترة التحضير لتصوير فيلم "العقل في إجازة" رغم أن اسم شهرتها في العقد كان «هدى» الذي لم تكن تستسيغه حينها، وأن المخرج حلمي رفلة قد وافقها على اختيار اسم شادية بشدة.

رحلت شادية في العام 2017 عن عمر يناهز 86 عاماً. تاركة أرثاً فنياً في الغناء والسينما، ومسرحية واحدة "ريا وسكينة" وعدد من البرامج الإذاعية. لكن شعلة بخوّرها ما زالت تعبق في الأجواء.

يقرأون الآن