مسلسل أمي المعرب عن التركية يضع الدراما السعودية في الواجهة. عمل متقن ومؤثر. القصة الخلابة، الأداء العالي، يجعله في مقدمة الأعمال الدرامية التي تُعرض على منصة "شاهد".
يعالج مسلسل أمي مسألة الأمومة كما هو واضح من العنوان. الأمومة ليست واحدة بل منوعة. هناك الأمومة الكارثية، والأمومة الدفينة، والأمومة المكرّسة، والأمومة الفطرية.
البطلة الطفلة ترف العبيدي.. كخريجة معهد تمثيلي
قوام هذا العمل وبطلته الرئيسية هي الطفلة بسمة التي تؤدي دورها ترف العبيدي، تبدو كمتمرسة وخريجة معاهد الفن التمثيلي. الطفلة ابنة السبع سنوات تقدم دورًا محترفًا وصعبًا. استطاعت أن تسيل دمعتنا، وتأخذ بقلوبنا، وتنفخ فينا حسًا مشاكسًا للظلم.
هذه الطفلة التي تلقى التعنيف من أمها سهام "رنا جبران" وزوجها عبيد "تركي يوسف"، وتقبل بالسيء من فم ساكت. تلقى الضرب والقسوة والجوع والإهمال من أهل أسوأ من السوء، حتى يصل بهم الأمر إلى رميها في كيس نفايات مغلق بهدف التخلص منها.
المشهد الأقسى
لا يمكن أن تفارقنا نظرة بسمة الغائرة بالخوف والقبول بأمر الواقع، والوجه الطفولي المكمّم اللسان، الفاغر الفم. العيون المتدحرجة على لا شيء، والجسد المتعرق، والشعر المبلل بزيت القمامة، عندما فتحت أبلة "مريم" العنود سعود الكيس لتجد الطفلة في داخله، وهي ترفع عيونها الخائفة نحو العلاء كأنها تستنجد ببارئها.
من هذه النقطة تبدأ القصة الحقيقية، عندما تأخذ مريم بسمة ويبدآن معًا رحلة الأمومة والبنوة.
مريم "العنود سعود" حاملة المسلسل وحاميته
تقدّم "العنود سعود" مريم دورًا يفتح الروح بألف جرح. يفتح كل مفاهيم الحياة دفعة واحدة. مريم الأم الساكنة في كل امرأة. الرحم الذي لم يلد، لكنه رحم خارجي يضم، يهتم، يتألم، ويعيش كل مخاضات الحياة وأوجاعها بهدف حماية أبنائه.
استطاعت العنود سعود أن تجسد قصة الأمومة بأعمق تعبير ممكن، بأداء يمكن أن يسمى نموذجًا. قمة في التعبير. لا يوجد الكثير من الحوار والكلام. هنا فقط سنشهد الحوار ينزلق من الوجه. الملامح هي الكلمات، العيون هي المفردات، انسلاخ الوجع يكمن في المحيا. التشتت في النظرات، الخوف في الصوت المتهدج، الإرباك يمتلك الجسد المرتجف، الذهن الشائح الذي يضمر خلفه أكبر الأسرار، الصمت المتعمد حتى لا تفضح الكلمات أقسى قرار وتجربة.
العنود سعود أعطت مريم كل شيء. أعطتها قدرة أخذت بنا حد البكاء، حد النقمة. جعلتنا كمشاهدين معنيين بها، خائفين عليها. إنها المرأة الخائفة والشجاعة، المرأة المسكونة بروح الله. ولكنها في النهاية خطفت طفلة، أو خلّصت طفلة، وجعلتها ابنتها وباتت أمها.
في دور مريم "العنود سعود"، نرى الأمومة متجلية. تفتح أبوابًا مسكونة بالحب، تغلق بأمومتها وجع الدنيا. تحارب، تقسو على نفسها، يُحنّطها الوجع، ومن ثم تبتسم في وجه ابنتها، وهي ليست من رحمها.
مريم هي أمّنا جميعًا. الأم التي تنام على غم، وتنهض عالية الهمة. تضحي بالغالي، تنام على حجر، تحمل همًا أكبر من قامتها، وتمشي والدموع طافحة، والأمل يسكنها، والحب ينهار كشلال من أطراف هندامها. حتى ثياب الأم تكون حنونة. هذا ما وصلنا، هذا ما نحضره. نعيش أمومتنا، أو نعيش الأم بكل معناها.
العنود سعود صنعت نجوميتها
تبوأت القمة. وقفت شاهقة في علياء الفن. حملت إبداعها كومة واحدة ورمته على مرآنا. وقالت ما لا يُقال. وصنعت دورًا صعبًا، عميقًا، وجليلاً. جاءت مريم بصوت خفيف، ناعم، طري كعجين حين تلف ابنتها وتداريها. وتصبح لبوة شرسة تزأر عندما يداهم الشر ابنتها أو يقارب فلذة كبدها. هذا الدور عن أم لم تلد، لكنها تشعر به وتأتي به من قاع قلبها، كأنها مفطورة على الأمومة. هو وسام تقديري يُخصّون به المرأة.
العنود سعود، ألف نجمة تلمع فوق محياها. لا نبالغ إن قلنا إنها حاملة المسلسل وحاميته. وبما أن معظم مشاهدها مع بسمة الطفلة، فهي قادرة على تغطية انزلاقات الأداء عند ترف العبيدي، وترفعها وتأخذ بيدها في التمثيل، كما أخذت بها في واقع الحكاية التمثيلية.
العنود سعود تستحق شكرًا مجلجلًا على كل إحساس قدّمته بعفوية واضحة، وصل للجمهور كحقيقة واقعة. طالما الشخصية الرئيسية نقية في أدائها حد البريق، وطالما ترف العبيدي ترافق أمها، لا شك أن العمل سطا على المشاهد، ولم يُرفق به، وبات معنيًا بهذه الدراما القوية الجميلة.