TRENDING
سميرة توفيق.. صاحبة الأسطول السّادس التي أخلت شوارع ضيعٍ يوماً من سكّانها

شامة خدّها كانت قادرة أن تشعل قلوباً، وصوتها كان يفرغ الشوارع من روادها، وغمزة عينها ترشق أصحاب القلوب الضعيفة.

ما أن كان يصدح صوتها عبر شاشة تلفزيون لبنان في سبعينيات القرن الماضي، حتى كانت الأزقة تخلو من ناسها. يتحلّق الجميع حول الشاشة الصغيرة بالأبيض والأسود، وامتلاك مثل هذا الجهاز في حينها كان دليل أبّهة وعز، فيصبح البيت مقصداً للأهل والجيران.

وصاحبة الوجه القمري قادرة أن تسمّر الجميع خلال غنائها، وإن تسبّبت بشجارات في بعض البيوت من غيرة النساء على أزواجهن وهم مأخوذين مسحورين بخال الفنانة الجميلة وغمزة عينها، التي كانت ترميها بين حينٍ وآخر وهي تغنّي.

العز التي نالته سميرة توفيق لم تحظ به فنانة أخرى، إلا من هن من أمثالها، قلة بات اسمها محفوراً في تاريخ الفن، تشكّل الذاكرة الخالدة للقرن الفائت. وسيبقى نتاجها زاد المستقبل، مثل وديع الصافي وصباح وفيروز، كل هؤلاء من جبلة واحدة أسسوا لحضور الأغنية اللبنانية وخلودها.

حصائر تلك البيوت العتيقة ما زالت تشهد على إبداع فنانة بزيٍ بدويٍ في مسلسل "فارس ونجود" مع محمود سعيد، شكّلت معاني الحب والكرامة والعشق لجيلٍ كامل. وأعراس وأفراح الضيع تخبر عن لياليها وأهاليها يرددون "اسمر يا حلو" و"رف الحمام" و"حبك مر" و"وع العين موليتين"، وما زالت حتى الآن أغنية "بسك تجي حارتنا" تقيم الناس ولا تقعدهم، والجيل الجديد يدبك على إيقاعها ظناً منه أنّها أغنية حديثة وهي تحمل في نغماتها كل طبول الأمس البعيد.

لم تثر سميرة توفيق حولها القلاقل، ولم تنشر غباراً يشوّه أو يغطي على مسيرتها الفنية. حياتها الشخصية بقيت بمنأى عن المتناول والمعروف. دوماً كانت نضرة وبعيدة، قريبة بفنها وجمالها الذي حبا القلوب من الرجال والنساء اللواتي كن يقلدن خالها وانسدال شعرها الأسود.

رصانتها عنوان وجمالها لم يصله أحد. عُرفت بأناقتها المحافظة جداً والمبهرة جداً، تعاونت مع أهم المصممين في ذاك الوقت مثل شفيق خوري، ووليم خوري المصمم الذي وصل العالمية والذي صمم لها أكثر من 1500 ثوب. كانت أثوابها تُحدث ضجةً في عالم الأزياء، وتقلَّد وتتصدر واجهات المحلات في لندن وباريس.

يُروى أن الشرطة اللبنانية واكبتها كحراسة في احدى الحفلات التي أقيمت في فنيسيا، وكانت ترتدي ثوباً مرصعاً بـ1800 ليرة ذهبية، خافوا عليها من الخطف او التعدي بهدف السطو على الثوب الغالي المذهب. ليتبين بعد ذلك ان اللمعان الذهبي لم يكن من الذهب الخالص بل مزيفاً.

تميّزت سميرة توفيق باللون البدوي في غنائها، فلم تكن لتنافس أحداً، ولم يكن أحدٌ ينافسها، كانت تغرّد في باديتها متفرّدة بكبر، وكثر من جيل اليوم حاولوا تقليدها والسطو أحياناً على أرشيفها وهي تترفع لا تأبه، طالما أنّ الذين يغنّون لها يحافظون على اللحن والكلمة ولا يشوهونها. وقد عبرت عن ذلك أكثر من مرة خاصة عندما أظهرت احتضاناً لفنانات غنّين أرشيفها، تقبّلت الأمر شرط أن يكون أرشيفها مصاناً كقيمة فنية لا تشوّه.

لم تكن سميرة توفيق فنانة مطربة وحسب بل كانت فنانة كاملة، فهي عملت كممثلة وأعطت السينما لا سيما المصرية منها قطافاً وفيراً، شاركها في ذلك كبار الفنانين من ممثلين ومخرجين أمثال رشدي اباظة وعبد السلام نابلسي وصباح. فخلال عقدين من الزمن بين ستينيات وسبعينيات القرن الماضي كتبت باسمها أكثر من 18 فيلماً سينمائيً. وكان من نصيبها مسلسلان حملا اسم "فارس ونجود" أنتج عام 1974 ، ومسلسل "سمرا" أنتج عام 1977.

أما أرشيفها الغنائي الذي يضمّ أكثر من 150 اغنية مشهورة، فقد تعاونت فيه مع عدد من الملحنين والشعراء في لبنان والعالم العربي، بينهم عفيف رضوان، وعبد الجليل وهبي، ومحمد محسن، ورفيق حبيقة، والياس الرحباني، وزكي ناصيف وملحم بركات، وايلي شويري، ووسام الأمير، وفيلمون وهبي الذي ربطتها بعائلته صداقة متينة، وكانت في بداياتها قد التقت الملحن اللبناني توفيق البيلوني الذي شجعها على الغناء، فاستوحت منه اسمها الفني وقالت له : «أنا سميرة والتوفيق من الله».

سميرة توفيق غادرت لبنان منذ سنوات وتقيم في دبي. فهذا الوطن الذي ضاق بأهله ضاق ايضاً بفنانيه ومبدعيه ولم يعد يشكل ملاذاً أمناً. فقد عبرت توفيق في إحدى اللقاءات الصحافية عن هذا الاستقرار في دولة الإمارات قائلة:

«إنه الوفاء بكل ما للكلمة من معنى الذي تبادلني إياه دولة الإمارات اليوم، والتي لا يمكنني أن أتخلى عنها. فلطالما شكّلت هذه البلاد موطني الثاني، عشت فيها وأقمت في ظلالها منذ أكثر من 47 عاماً. يومها أُعلن عن الاتحاد بين جميع الإمارات ومهّد ذلك لمستقبل مضيء، لا يزال يطبعنا حتى الساعة. فما أعيشه اليوم هو تكملة لمرحلة جميلة من حياتي أعتز بها. فإنا أعيش معززة ومكرمة في هذا البلد، وبتوجيهات الشيخة فاطمة بن زايد أطال الله عمرها، هو أمر أفتخر به».

صاحبة الأسطول السادس

سمراء البادية أو صاحبة الأسطول السادس، لقب اتصفت به منذ بداياتها بحيث تضم عائلتها 6 اخوة : جانيت ونوال وسميرة وشارل وجورج ومانويل، وهذا الأخير وهو البكر توفي في ريعان الشباب، أما شقيقها جورج فقد رحل في عام 2021 أثناء تفشي كورونا وقد فجعت به شقيقته كثيراً. وكانت في كل حفلة تقيمها وهي لم تبلغ بعد الثالثة عشرة من العمر بين مسارح عالية ومسارح بيروت، تصطحب معها فيلق العائلة كلها.

فأمها الست نعيمة كانت المشجع الأول لها، وكذلك أخوتها، ولهذا سميت فنانة الاسطول السادس. وما زالت حتى الآن محاطة بعائلتها الكبيرة من أخوة وأحفاد وتعتبر بمثابة الأم للجميع علماً بأن سميرة توفيق لم تنجب.

من الصعب أن نصف مكانة فنانة أعطت وطنها والعالم الكثير من الفن. الأردن احتضنها وأطلق نجوميتها وأوصل صوتها أرجاء الكون، وكانت الوحيدة التي غنت في أستراليا أمام الملكة اليزابيت الثانية في افتتاح "أوبرا هاوس"، ومثلت لبنان في انطلاق النادي اللبناني المكسيكي، وحازت على مفاتيح برونزية وذهبية للعديد من البلدان مثل فنزويلا.

كبيرتنا سيبقى اسمها على الصفحات المقروءة والصور الذهبية وتاج الملوك وقلوب الناس.


يقرأون الآن