خمس سنوات على رحيل مهى الخطيب سعادة. المذيعة التي تمتلك صوتاً طربياً. تقيس الحروف بمسطرة الروح. تنشد في إلقائها لننسى ماذا تقول. تأخذك بقريحتها نحو أبعاد أوسع من الكلمة وأشد غوراً من المعنى.
عازفة الكلمة
مهى الخطيب سعادة حالة لا تتكرر في زمن الميديا والشاشات التي لا تعد ولا تحصى. شخصية كانت مفطورة على الحس الأدبي والثقافة. استطاعت أن تسكب الكلمة في قوالب من الأدب بنغمات من عزف الدواخل.
محظوظ ذاك الذي جاورها في تاريخها الفني والإذاعي. فعرف طعم الكلمة عندما تغمس بالرقة والأنوثة والجمال والمَلكة الفذة.
يوم بزغ حضورها في تلفزيون لبنان كان عمر التلفزيون سنوات قليلة. فكانت الشاشة الفضية دهشة نادرة، ومن يظهر فيها يجب أن يكون قامة من خصوصية وتفرد. ونهى الخطيب السعادة كانت كل ذلك. صوت أنيق مهندم الشكل والنبرة بحته فيها أغوار الاكتشاف وعذوبته قمم من نقاء.
خارقة الموهبة
قد يبدو هذا الوصف خيالياً، وهي كانت شخصية خيالية قادرة أن تحفر في الذهن صورة أبعاد ليست في المتناول، تغزل الكلمة في صروح البقاء لتصبح مثلاً ومثالاً.
في زمن حضورها لم تكون الشاشة متيسرة إلا لأصحاب المواهب الفذة. لم يكن التجميل موجوداً بل كانت سحنة الله هي الهوية. وهويتها كانت جميلة حد التّوهج.
لم يكن التسجيل والإعادة والفلتر وكل خوراق التكنولوجيا موجودة، فقط البديهية والطّلاقة هي الأدوات المتاحة. ونهى تلحفت بكل هذا التميز وامتلكت كل أدواتها. فجعلت من إطلالتها مروراً ذهبياً تغشى له النفوس وتأخذ بها القلوب.
صوتها حالة خاصة بين الأصوات المتميزة فيمكن أن تكون فاتن حمامة أخرى بتلك العطية التي حُبيت بها، فَردتَها على أسماع العالم العربي في زمن الستينات والسبعينات. جعلت من قامتها مكانة لا تتكرر ومن خامتها طرباً لمجرد أنها تتكلم.
الممثلة البارعة
نهى الخطيب سعادة ليست فقط بارعة على الشاشة الفضية كمذيعة. بل أيضاً كانت ممثلة خطيرة. تعرف كيف تؤدي بصوتها كل الحالات. فهي ملكة الصوت تعرف كيف تطوّعه وكيف تجوده وكيف تعزف كلمتها فتصبح حواراتها وإلقائها مدرسة في التعبير.
كانت تجيد تطويع الكلمة فتحمّلها كل ما تريد تحمّيله من فزع وحب وكره وغضب. الكلمة ملعبها الذي برعت وأبدعت فيها. فكان تمثيلها يرتكز على هذه القدرة. مضافاً اليها قدرات أخرى يجب أن يتصف بها كل ممثل بارع.
ظهورها بدأ بالأبيض والأسود. وهي لونت بحضورها كل الألوان الأخرى. أتت بها وصبغت بها الشخصيات التي أدتها. "لمن تغني الطيور"، النهر"، "حتى نلتقي"، "الخديعة"، "الجوال"، "ديالا"، "غرباء" وغيرها الكثير. كانت نجمة زمنها يوم كانت النجومية مستعصية.
اعتلت قمة المجد في زمن لا يعترف إلا بالأبطال والمواهب الخلاقة. سجلت بصمتها في دفتر البقاء تحت عنوان مَن بنوا الدراما، ومن افتتحوا التلفزيون، ومن علّم طريقة الإلقاء.
نهى الخطيب سعادة من تلك المدرسة الذهبية التي افتتحتها وعمرتها وسطعت فيها.
الرقيقة الجريئة
عرفناها رقيقة عذبة لكنها أيضاً كانت قوية وقادرة وجريئة. فالمعترك الذي دخلته يحتاج قلباً مغامراً أبنة 18 سنة دخلت رواق تلفزيون لبنان، ابدعت فيما أعطت. وصارت أستاذة. دخلت مجالاً كان نادراً ويحتاج ثقافة وشخصية وقدرة على المنافسة في مجال جديد. فكانت أستاذة منذ خطواتها الأولى.
والجرأة الأخرى أنها اقترنت من غير دينها بنصفها الآخر المخرج ايلي سعادة ومعاً بنيا الدراما اللبنانية وأنشآ عصرها الذهبي. ولم تلتفت إلى الوراء. كان أفقها واسعاً وفيه تحدٍ من جهات كثيرة. وربحت في أشواط حياتها جميعاً وبنت اسماً ومهنة وصارت نجمة في صفحات الفن الأصيل.
خذلها القدر، فتعرضت لحادث سير كاد أن يودي بحياتها. لكنها خلصت منه. وأودى بمهنتها فاعتزلت بعد ذاك الحادث في عام 1997 وبقيت أسيرة المنزل لا تخرج إلا نادراً ولا تطل إلا قليلاً. فكرمها الموركس دور في أوائل الألفية. حتى وافتها المنية في خريف عام 2018.
أيقونة التلفزيون وأيقونة الحوارات وأيقونة التمثيل. وسيدة الكلام. نستذكر حضورها بشوق لنقول إن أمثالها يغيبون وهم حاضرون. بعيدون وهم قريبون. ستبقى نهى الخطيب سعادة واحدة من الرواد في عالم الفن الذي لا يبوخ ولا يفنى.