فيروز الغائبة خلف جدران البُعد، القريبة كنفس في رئة، الحاضرة كضمير في وجدان.
ظهرت بالأسود كما لا نحب أن نراها، سبقها الحزن، أطبق عليها رحيل زياد، الابن الذي غاب، ومعه حُجِبَت كل الألوان، وبات الأسود هو اللون الحاضر الذي يتغلغل في القلب حتى آخر الدهر.
فيروز التي ظهرت في آخر حفل لها من بيروت في عام 2011، وتحديداً من مسرح «البلاتيا» في جونية في ساحل كسروان اللبناني، ومن بعدها غابت، والناس في انتظار أن تطل سيدة الصوت، لكن إطلالتها هذه لم تكن في الحسبان.
جاءت فيروز جليلة حزينة، بدون شهقة، بدون صوت، بدون صياح، فقط صمت ينخر الصوت ويتفوق عليه.
جلوس في هيبة وقار، كأرزة ظليلة لا تهتز. عيون غارقة بالمدى الأسود، بالفقدان، بالحزن، بالرسوخ. وهج يُسطّر حتى في الانكسار والوجع.
فيروز التي لا تغريها العتبات المضاءة، ولا الشوارع المزدحمة، ولا الأسواق المكتظة. فيروز التي لا نعرفها سوى من صوت أغرقنا في أيقونة حضور آسر وعمق لا قرار له، وبُعد أشبه بخيالات منحوته بالنور.
حضرت فيروز بين الناس، تلتقي بهم فرداً فرداً، تُسلّم على الجميع، ويقفون عند خاطرها. وهي معهم كصخرة، كوجه بحّار قديم، هي الأم الحزينة، هي مثل أي أم فقدت ابنها.
حضور صعب، بلون السواد، وطعم الوجع، وغرق الدمع.
فيروز الغائبة عادت إلينا محمّلة بمملكة الأسى، متشحة بجلالة الأسود الحزين. فيروز، وهي منفردة أو وسط كل الناس، تبدو كما تريدنا أن نعرفها.