مايا يمّين وبيريت قطريب صوتان يقفان عند حافة الحياة، يصرخان بعمق يجلجل مسرح مونو.
إيلي مكرزل كتب مسرحية "روز ماري" بذلك العطر القاسي الذي يصفع الأنفاس، ويحوّل الحكاية إلى رحلة تتأرجح بين الدمع والاستهزاء.
لغة بسيطة محكية تمتدّ على مدار ساعة كاملة، تتناوب فيها ممثلتان مخضرمتان على حمل الحكاية.
مايا تستخفّ وبيريت تستغيث.
وبين الاستخفاف والاستغاثة، يخرج النص محبوكاً كقصة واحدة تمسّ كل من يشاهد.
الأدوار تنقلب، والوجوه تتشظّى، وتعلّق مايا يمّين عينيها في حدقاتنا.

تحكي وتبكي، تأتي بعصب من فولاذ، تصوّب سهمها نحونا، فتقلّنا من شدّة تعابيرها: ساخرة حدّ البكاء، وموجوعة حدّ الانفجار، والدمع يخطّ وجهها كمرآة متشقّقة.
وبيريت قطريب إلى جوارها، كغصنٍ لين يلتوي في الريح: مقصوف الأفنان، مغموس بالحب والحرمان والموسيقى والصمت.
مهمّة مايا يمّين “روز” أن تعيد الرشد إلى مساره، وخلال هذه العودة تُفتح الجراح وتسيل الحكايات، فنجد أنفسنا ، نحن الجالسين في مقاعد السمع ، نعيد سرد قصصنا الخاصة عبر ما نشاهده.
أمّا بيريت قطريب “ماري”، فتمتشق تاريخها وتستخفّ به: من نجومية ناجحة وطموحات محقّقة، إلى قلب ضاق به الحب وتركه يتيماً. تتحوّل إلى صلاة طويلة، وإلى عوز عاطفي بلا شفاء.
كتب إيلي مكرزل هذه الحكاية بلغة عامية محكية، لكن على عمق تقطعه قصص البيوت، ووجع النساء، وتلك الطبقات الحياتية التي نعرفها جميعاً ولا نقوى على الاعتراف بها.
استعمل المخرج فادي هبر أدوات بسيطة، لكنه قدّم عملاً صافعاً.
إضاءة خافتة تتحرّك كأنها موسيقى تتنفس، وفضاء ضيق يتّسع كلما علت الصرخة.
فمايا وبيريت تعيشان النص حد التماهي.
جسدٌ وصوتٌ ونَفَسٌ واحد.
هذا العمل المسرحي الذي يشكّل باكورة أعمال مكرزل للخشبة، جاء بحساسية من يعرف كيف يلتقط الوجع من عمقه، ويصوغه بلا مبالغة ولا زخرفة.
وضوح في الجملة، صدق في الحركة، وقرب يكاد يلامس الجالس في الصف الأخير.
في المسرح الصغير، حدث الالتحام الفعلي بين النص والممثلتين: أداء مبهر، حضور آسر، ومشاهد يتنقّل فيها الجمهور بين ضحكٍ يطفو ودمعٍ ينحدر دون استئذان.
إنه ذلك الذكاء المسرحي الذي يجعل من البكاء أحياناً ضحكة ملتفّة حول جرح ضحكة تعرف أنها ليست خلاصاً، ودمعة تقرر المصير.
بهذا العمل، يثبت إيلي مكرزل أن المسرح لا يحتاج إلى بهرجة كي يهزّ الأرواح، بل يحتاج إلى صدق، وصوتين يعرفان كيف يحفران عميقاً.
وعلى خشبة مونو، تركت مايا يمّين وبيريت قطريب جمهوراً يخرج بصمت، كمن شهد اعترافاً كاملاً للروح.
