خرجتُ من صالة السينما مثقلة بدهشةٍ هادئة، وبطاقةٍ تشبه الكشف. لم يكن فيلم "الست" مجرد سيرةٍ لفنانة، بل عبوراً بصرياً وروحياً في حياة امرأة لم تكن يوماً "مطربة" فحسب، بل قدوةً كاملة في الفن والكرامة والانضباط والقدرة على تحويل الألم إلى مجد. فيلمٌ يمتد على 160 دقيقة، لكنه لا يثقل الزمن، بل يحرّره، ويعيد تشكيله على إيقاع أم كلثوم.
رحلة بصرية تُمسك بالذاكرة
منذ مشاهده الأولى، يخطف فيلم "الست" المتلقي إلى عوالم من السحر والموسيقى. الكاميرا لا تراقب من الخارج، بل تقترب، تلامس، وتحوّل الوجوه إلى صفحاتٍ من إحساس. حركة العدسة هنا ليست تقنية، بل كتابة موازية، تقبض على ملامح الأبطال وتغرسها في الذاكرة كمواطن دهشة لا تُنسى.
الموسيقى التصويرية تقبض على الأنفاس، ترافق الصورة وتقودها. هي شريك سردي، تنقلنا بين الأمس والغد، وتخيط سيرة حياة كوكب الشرق بخيطٍ إنساني شفيف، كاشفةً الجانب المبهم من الأسطورة، ذلك الجانب الذي طالما بقي محجوباً خلف العظمة.
سردٌ مشهديّ ولغة من المسام
السرد في الفيلم مشهدي بامتياز. اللغة لا تُقال بقدر ما تُستشعر؛ تأتي من المسام، من الإيقاع، من الصمت المدروس، ومن تخصيب الأجواء قبل النطق بالكلمات.
المخرج المبدع مروان حامد يعيدنا إلى إيقاع الإبداع السينمائي الملهم، حيث السحر السينمائي يُعاش ويُحس .
لا يركن الفيلم إلى الحوارات الكثيفة، بل يفضّل تلك السفرة الطويلة في قطار الزمن مع "الست". نشاركها يوميات التعب والطموح، العذاب والتوتر، المجد والقيم التي تنزلق بهدوء في المواقف والجهد. نرى القوة كامرأةٍ صلبة، امرأةٍ استحقت بجدارة لقب "كوكب الشرق".
ويأتي مرور "أحمد حلمي" بدور ضابط، خاطفاً وبليغاً، يختصر بحضوره سرداً طويلاً عن الهيبة، وعن كلمة السيدة التي تُسمع ويُؤخذ بها، وعن امرأة صار صوتها مرجعاً ومعنى.
منى زكي… حين يذوب الممثل في الأسطورة
منى زكي تخلع كل وجوهها، وتعيد ارتداء ملامحها من جديد. أداءٌ متماهٍ إلى حد الذوبان، يقدّم تحفة تمثيلية في تجسيد وجه «الست» التي هزّت العالم بفنّها وتربّعت على عرش الخلود. لا نشعر أننا نشاهد تمثيلاً، بل حضوراً؛ كأننا في حضرة العظمة التي قيل عنها ولم نشهدها، وبات بإمكاننا هنا أن نستشف وهجها، سرّها، وسحرها.

أبطال يكمّلون الهالة
العمل، بديكوراته الفخمة وأدائه الجماعي، يخلو من أي سقطة. هو بلوغ حقيقي في عالم السينما والسحر. أمينة خليل تمرّ في مشهدٍ واحد، لكنها تلتقط الروح وتثبت في الذاكرة بأبهة أداءٍ محسوب. أما نيللي كريم في شخصية الملكة نازلي، فتقنعك تماماً بأنها سيدة العرش: تصرّم فمها، ترفع عنقها، وتفرض حضورها كملكةٍ مهيبة لا تشبه إلا نفسها.
أم كلثوم… أكثر من سيرة
لم يكن الفيلم سوى تكريسٍ لعظمة «الست». يأخذنا من طفولة البدايات إلى لحظة الوداع، عبر سنوات ومحطات وأبواب تُفتح على سيرة امرأة كانت كوكباً في الغناء، وطاقةً تمشي فوق الوجع والألم، تقف كالرمح وتنشر فناً انتشت له شعوب الأرض.
نراها أم كلثوم المحاربة من أجل وطنها، ومن أجل النساء، والكاتبة صاحبة الرؤية في الحياة والفن والوطنية. كل ذلك حاضر في مرمى المشاهدة، ومنى زكي تحمل ملامح السيدة التي هزّت الأرواح بصوتها، وبقيت القمة الفنية العالية في هذا الشرق.
فيلم "الست" عن أم كلثوم تجربة سينمائية تُشبهها: مهيبة، دقيقة، وصادقة. عملٌ يذكّرنا بأن بعض السير مهما حكي عنها يبقى هناك الكثير لاكتشافه. فيلمٌ معبّر، مشغول بعناية، يعرف ماذا يريد أن يقول وكيف يقوله، ويمنح المتلقي متعة بصرية وروحية نادرة دون أن يفرّط بالعمق.
فيلم لا يُقاس بانتهاء العرض، لأنه يستمر في الذاكرة، في الإحساس، وفي ذلك الصمت الذي يلي الإبهار. "الست" عمل لا يُنسى، لأنه يشبه صاحبته: حاضرٌ أبداً، عصيٌّ على الغياب، ومحصّن بحقيقة قادرة على إشعال الحاضر.