بعد ثلاثة عقود على رحيله، لا تزال ضحكة "لطيف لبنان" رياض شرارة وعبارته الشهيرة "ريتك تقبريني" حاضرة في وجدان اللبنانيين الذين أحبوا إطلالاته الظريفة ودماثة حضوره ولباقة حواراته، رغم نكاته التي اعتاد إطلاقها بجرعةٍ زائدة، أحيانًا.
ثلاثة عقود مرت، واستذكره اليوم نجله هادي بصورةٍ مؤثرة عبر خاصية "الستوري" على "إنستغرام". أما التدوينة التي أطلقها نجله غدي على "فيسبوك" مرفقة بتعليق جاء فيه: "ثلاثون سنة في الجنة.. أنت قدوتي" (30Years in Heaven..My Idol)، فقد ألهبت ذاكرة اللبنانيين بتعليقات وتدوينات أعادته إلى مدونات التواصل الاجتماعي التي رحل قبل انتشارها، والسؤال يطرح نفسه: "كيف كان لشرارة أن سيتعامل مع هذه الوسائل المتطورة لو أمهله القدر لاستخدامها"، خصوصًا أنه عمل دائمًا على تطوير نفسه، ولم يفارقه الكتاب يومًا؟!
تأتي ذكرى هذا الإعلامي الوطنيّ الفذّ في ظل الأوضاع الصعبة تحت وطأة القصف الإسرائيلي المستمر، وهو الذي اعتاد أن يكرر قوله خلال سنوات الحرب الأهلية: "أنا الصوت الوحيد اللي ما نشّز بالحرب رغم الضغوطات عليّ لاتخاذ موقف"..! فقد اختار "شرارة" الحياد الوطني، وأصدر مع صديقه وديع سعادة كتابًا أسمياه "إنجيل 1979"، كتبا فيه وصايا وطنيّة، وإنسانيّة، وقدماه بمثابة الاحتجاج الأبيض على عبثيّة القتل والدمار.. آنذاك.
نشأته
بدأ شرارة مشواره المهني كفنيّ كهربائي، ثم تابع كمصلّح لماكينات الخياطة، وبعدها عمل خطّاطًا للافتات ومدرّسًا خصوصيًّا، قبل أن يبدأ رحلته عبر ميكروفون الإذاعة اللبنانية عام 1962 في عمر الـ17، حيث انطلق برنامجه الأوّل "صفر أو عشرين"، الذي قدمه لسنوات، ثم تابع بمزيد من برامج المعلومات والإتصالات والربح.
عمل شرارة كصحافيّ في مؤسّسات إعلاميّة كبيرة، أبرزها مجلّة "الحوادث"، وقدّم في التلفزيون نشرات الأخبار، لكنه انحاز إلى الترفيه والمرح، وانطلق بتقديم البرامج التي استضاف فيها كبار الفنّانين، والشخصيّات المعروفة، واستمر بها حتى وفاته بعدما ملأ الهواء التلفزيونيّ، بـ2500 ساعة، والإذاعي بـ27 ألفًا.
لُقِب "شرارة" بالـ"ويكبيديا المصغرة" قبل عصر الانترنت ووسائل التواصل، فقد كان باحثًا منهجيًّا عن منابع المعلومات، ومشتركًا سنويًّا بعشرات الإصدارات الأجنبيّ التي تقدّم الطرائف والكاريكاتور.
سجّل صوته لبرنامج المسابقات الياباني بعنوان "الحصن" الذي وصل إلى لبنان دون أيّ ترجمة أو إيضاحات، لكنه نجح بترجمته إلى العربيّة الفصحى بشكل متواصل ودون أخطاء، حتّى صار ينهي خمس حلقات في اليوم الواحد.
على الرغم من نفيه الدائم عن نفسه صفة الشاعر، أصدر شرارة ثلاثة أشرطة كاسيت بصوته، تتضمّن بوحًا شعريًّا، هي: "السيّدة حبيبتي وعاشق بالولادة وعاشق حتّى الشهادة".
دخل عالم التمثيل في مسلسل "ناطورة الحارة" في العام 1975، مع النجم إحسان صادق، وكاد أن يمثّل في فيلم مصريّ عن حياة سيد درويش. وبالتزامن مع عمله كمقدّم برامج، أصدر شرارة مجلّتين، إحداهما مع الإعلاميّ جان كلود بولس، تحت اسم "تليسينما" وكانت شهرية باللغتين العربية والفرنسية، والثانية سياحيّة بعنوان "الجوّال"، لكنهما أُغلقتا قسرًا في الحرب الأهلية.
حياته العائلية
في عمر الثالثة والعشرين، تزوج رياض من رينيه الدبس، إحدى المتباريات في برنامجه، واختار أن يكون حفل زفافه ليلة رأس السنة معلقًا: "هيك ما بنسى عيد زواجي، وما بضطرّ إعمل احتفالين".
أنجب هادي (الموزّع الموسيقي) وهنادي، ونادين، وغدي، وشاركوا جميعًا في برنامج "أنا وعيلتي"، المبني على مشاركة العائلة في برنامج أسبوعيّ تفاعليّ، فيه دردشات ومسابقات.
واعترف "شرارة الأب" أنه شرقيّ في نظامه العائليّ، مؤكدًا في نفس الوقت على رفضه لفكرة التسلّط. لكنه كان متمسكًا أيضًا برفضه لفكرة وجود الخادمات في المنزل، لأن أهل البيت قادرون على إنجاز أعمالهم.
رحل رياض شرارة بأزمة قلبية، بعدما أسعد الكثير من القلوب، تاركًا بصمة إعلامية ثقافية وأخلاقية لا يقوى عليها النسيان، وهذا ما تؤكده التعليقات على مدونة نجله غدي بعد 30 سنة على رحيله.
.. وكم يفتقد الوسط الإعلامي نجمًا يرسخ الثوابت الاخلاقية والوطنية واللغوية في زمن الاستخفاف والفوضى، وكم يفتقد الوطن لوصاياه وابتسامته وتعليقاته اللاذعة وسط هذه الظروف القاسية..!