على وقع تصاعد أصوات المدافع وقصف الطيران الحربي، غابت مظاهر الاحتفالات عن المناطق اللبنانية، بفعل طغيان أجواء الحزن والغضب، على النغمات الموسيقية والحفلات الفنية.
صحيح انه لمشهد مألوف، مرَّ على لبنان سابقًا، لكن جديده هو غياب التضامن الفنيّ الغنائي الكامل معه.
هذه الحرب تعتبر من الأقسى تاريخيًا، بدرجات أعلى عن سابقاتها لناحية العنف الدموي والدمار الهائل، بالإضافة إلى الإحباط المعنويّ الذي خلّفته.
ورغم أن ما سبقها من حروب لبنانية – لبنانية ولبنانية خارجية، يمكن القول إنه أقل قساوة الى حدّ ما، إلّا أننا شهدنا فيها إرتقاءً للأغنية الوطنية وتضامنًا فنيًا ضخمًا من جانب المشاهير، الأمر الغائب في أيامنا الحالية...!
تضامن الفنان (ة) مع مأساة البلد، لا يتمثّل بإصدار اغنية وطنية، من عدمه، لكن المسؤولية الوطنية المعنوية، واجبة عليه إنطلاقا من الرسالة التي يحملها الفن بشكل عام، إذ من شأنها خلق بصيص أمل في قلب هذا الشعب الغارق همومه وأوجاعه وسط هذا النهر الدموي الجارف.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، فقد تحوّلت سابقا، أغنية الفنانة جوليا بطرس "غابت شمس الحق"، الى أشبه بتمثال منحوت في قرى جنوبية لبنانية عانت من عدوان إسرائيلي على مر السنين، وعامود من أعمدة النصر المعنويّ ولاسيما في زمن التحرير عام 2000، هتف بكلماتها الشعب "منرفض نحنا نموت" حتى حقق الهدف بـ "قولولن رح نبقى"، ما زاد من الإصرار والعزيمة...
كما أن أغنية "بيروت ست الدنيا"، للأسطورة السيّدة ماجدة الرومي، هي أكبر مثال على الأمل الذي تعطيه هذه الأغنيات، إن كان في السلم أو الحرب، بدليل تصدّرها المشهد في الساحات وعلى مواقع التواصل الاجتماعي لدى كل هزة امنية او سياسية تضرب بيروت وسائر المناطق، وقد شهدنا اليوم على ذلك في الحرب الحالية من خلال مقاطع الصور والفيديوهات التي تظهر الدمار الكبير لضواحي بيروت، على وقع كلمات العمل المؤثرة.
نتذكر أيضًا أغنية الفنان عاصي الحلاني، "قلن إنك لبناني"، التي سجّلت علامة فارقة في التاريخ الفنيّ للحلاني، ففيها افتخر الجميع أكثر بلبنانيتهم وتغنّى الكل بطبيعة وميزات هذا البلد، الأمر الذي انعكس على المغتربين اللبنانيين بشكل خاص والمقيمين بشكل عام، ما أشعل حس الإنتماء للجنسية اللبنانية التي يفتخرون بها أمام كل شعوب العالم.
بالإضافة إلى هذا التأثير الفوري الذي تعكسه هذه الأغاني الوطنية، نلحظ حاجة اللبنانيين اليها دائمًا، فمثلا لدى اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري في 14 شباط / فبراير 2005، كما في انتفاضة 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2018، أُنتِجَت حينها اغنيات جديدة، وحققت أهدافها في الساحات، حين تجمّعت حشود غفيرة من كل أطياف المجتمع، للتعبير عن أملها بِوطنٍ سيّد حر مستقل.
فعلا، الأغنية الوطنية هي مسؤولية معنوية، تضرب على وترٍ الشعب اللبناني الحساس، خصوصًا في الأوضاع التي نعيشها اليوم، فإصدارها هو قيمة مضافة لأرشيف الفن اللبناني كما لأرشيف الفنان، حتى لو لم تأتِ بأرقام عالية تعود بالمنفعة المادية، يكفي أن صاحبها يكون قد قام بلفتة تريح ضميره.
فعلى حد قول الفنانين "الفن هو رسالة وسلاح يحاربون بهما"، فإذا كان الأمر كذلك، ألم يحن الوقت لتوجيه هذا السلاح ولكتابة هذه الرسالة بطريقة صائبة تلهم الشعب وتزرع فيه الأمل لتحقق الأهداف المرجوة؟!