قبل حوالى 20 عاماً من عرض فيلم "الناصر صلاح الدين"، الذي أُنتج عام 1963 ولعب بطولته أحمد مظهر، أنتجت السينما المصرية فيلماً آخر حمل إسم "صلاح الدين الأيوبي"، ولعب بطولته حينها بدر لاما وزوجته الست بدرية رأفت، التي اعتزلت التمثيل بعد تقديمها 9 أفلام حيث تفرّغت لتربية أولادها. إلاّ أن فيلم بدر لاما الذي عُرض عام 1941 لم يركّز على بطولات صلاح الدين نفسه بقدر تركيزه على الفترة التي حصلت فيها الهدنة بين المسلمين والصليبيين، وكيف انتهز الشباب العرب الفرصة للانضمام إلى جيوشهم، وكان من بينهم الفارس سيف الدين، بطل الفيلم والذي لعب دوره بدر لاما.
وبعد أن دار الزمن ووصلنا إلى الستينيات، قامت المنتجة المصرية من أصل لبناني آسيا داغر والتي لُقبت برائدة الفيلم التاريخي في السينما المصرية، بإنتاج فيلم حربي ضخم رصدت له كل الامكانيات، بالاشتراك مع مؤسسة السينما.
الممثل أحمد مظهر في فيلم "الناصر صلاح الدين"
المخرج تخوّف من المشاهد الحربية
بدايةً، توجّهت آسيا داغر إلى المخرج القدير عز الدين ذو الفقار فأبدى لها استعداده لتقديم الفيلم، مشيراً إلى تخوّفه من "المشاهد الخشنة"، ويقصد بها المشاهد الحربية، ورشّح لها يومها المخرج يوسف شاهين لإخراج هذه المشاهد، بينما يتولى عز الدين بنفسه إخراج باقي الفيلم.
بعد ذلك، قصد عز الدين ذو الفقار الممثل رشدي أباظة، وقال له: "جهّز نفسك لأني أريدك لتأدية دور مهم وهو الناصر صلاح الدين"، فردّ رشدي أباظة قائلاً: "أحضر حالياً لمشروع تاريخي ضخم، أؤدي فيه شخصية بيبرس، فلن أستطع تقديم العملين معاً".
أحمد مظهر اعترض على تقديمه
عندها، قصد عز الدين الممثل أحمد مظهر الذي اكتشف بعض الثغرات في سيناريو الفيلم، معترضاً على تقديمة بهذا الشكل، حيث أن السيناريو كان "يضخّم" شخصية عيسى العوام، على حساب شخصية صلاح الدين.. فرشحوا حينها الممثل شكري سرحان والممثل كمال ياسين، لكن لم يحصل اتفاق بينهم.
وفي النهاية، عرضوا الفيلم على رشدي أباظة من جديد، وقد وافق على تقديمه وبدأ في تجهيز الشخصية، مستعيناً بأساتذة في اللغة العربية ومتخصصين في المبارزة القتالية.
في هذا الوقت، تعب عز الدين ذو الفقار صحياً، وشخّص الأطباء مرضه، وشدّدوا على ضرورة أخذه فترة طويلة من الراحة، ولكي لا يعطّل أعمال التصوير، تنازل عن إخراج فيلم "الناصر صلاح الدين"، ورشّح يومها شقيقه محمود ذو الفقار ليخرج الفيلم، إلاّ أنه قال: "يوسف شاهين أفضل حد يعمله".
الممثل أحمد مظهر في فيلم "الناصر صلاح الدين"
انسحاب رشدي أباظة ومريم فخر الدين
هنا حصلت أزمة بين المنتجة آسيا داغر ورشدي أباظة الذي كان مصمماً على انتظار عز الدين ذو الفقار لكي يتعافى، ويستأنف التصوير، على اعتبار أنه صاحب المشروع. لكن في حسابات السوق والإنتاج، واستناداً إلى كلام الأطباء، كان من الصعب أن يكمل عز الدين في المشروع، وبناءً عليه، انسحب رشدي أباظة من التجربة، وأوصل أحد الأشخاص إلى يوسف شاهين، أن رشدي أباظة لا يرغب في العمل معه، فحصلت عدواة بينهما استمرت لسنوات طويلة.
مع انسحاب رشدي أباظة والتعاقد مع المخرج يوسف شاهين، قرّرت مريم فخر الدين التي كانت متعاقدة مع عز الدين، أن تنسحب أيضاً من الفيلم، لأنها لم تكت تحب أن تعمل مع شاهين أيضاً... وهنا عادت آسيا إلى أحمد مظهر مرة ثانية وتعاقدت معه، وعدّلت السيناريو كما طلب، وتابعت تعاقدها مع باقي الأبطال الذين ظهروا في الفيلم.. وجميع الممثلين كانوا "الترشيح الأول" لشخصياتهم، ماعدا دور "فرجينيا" التي رُشّحت له في البداية الفنانة شريفة فاضل واعتذرت بسبب السفر، وتم التعاقد حينها مع ليلى فوزي التي قدّمت الدور ببراعة ونالت اللقب من يومها وبات لقبها "فرجينيا السينما المصرية".
يوسف شاهين صوّر أحد المشاهد في حوض الاستحمام
وبعد الاتفاق مع جميع الأبطال، أقام يوسف شاهين معسكراً للفنانين المشاركين في الفيلم في صحراء العباسية لمدة 6 أشهر، خضعوا خلالها لتدريبات على الفروسية واستخدام السلاح، وبعدها بدأ التصوير الذي استمر حوالى سنتين، واجه خلالهم يوسف شاهين مشاكل كثيرة مع آسيا داغر، خصوصاً بعد ارتفاع الميزانية المتفق عليه مسبقاً مع مؤسسة السينما، بسبب مشاهد المعارك الحربية المتقنة التي قدّمها يوسف شاهين في الفيلم وبدت كأنها حقيقية، حيث قال عنها: "سمحت لنفسي بكل أنواع الجنون الفني، ونجحت في تقديم المعارك الحربية لأؤكد للعالم أننا في مصر لدينا القدرة على تقديم هذه النوعية من الأفلام وبكفاءة لا تقل عما يقدمه الغرب، لدرجة أن الضباط كانوا يتعجبون من قدرتي على التخطيط بدقة للتفاصيل وكأنها معركة حربية حقيقية".
ولكي يثبت شاهين لـ آسيا داغر أنه مخرج متمكن ولديه الحلول، قرّر وتوفيراً للنفقات، أن يصوّر بعض المشاهد الحربية في حمام سباحة، ووصل به الجنون لتصوير أحد المشاهد في حوض الاستحمام "البانيو"، وهذه المشاهد واضحة في الفيلم لمن يركّز فيها.
الرقابة انتقدته ورفضته
وواجه الفيلم مشاكل مع الرقابة التي كتبت في تقريرها عنه: "الرقابة رأت في الفيلم ضعفاً في السيناريو وأدّت إلى رفضه، ومنها واقعة علاج صلاح الدين لريتشارد قلب الأسد. فهذه الواقعة مشكوك في صحتها رغم أن السيناريو اعتمد فيها على بعض المصادر التاريخية"، وأضاف بيان الرقابة: "لا مانع من الاستعانة بهذه الرواية ولكن السيناريو استخدمها بطريقة مضحكة حيث طعن أحد الصليبين ريتشارد طعنة مميتة وقال طبيبه الخاص أن شفاءه ميئوس منه، وخرج أنصار ريتشارد من خيمته وهم يصيحون "مات الملك ريتشارد، يحيا الملك جون"، وبعدها يدخل صلاح الدين ويعالجه فيُشفى بقدرة قادر".
وانتقدت الرقابة المبالغات في السيناريو في مشهد آخر، موضحةً: "نجد ريتشارد الذي كان في حكم الميت يدخل في نقاش طويل مع صلاح الدين ويهدد ويثور ويقول إنه سيجعل بيت المقدس خراباً ثم يقوم قوياً ويوقف جيوشه الجرارة ويغير سيرها".
فشل في صالات السينما
وفشل الفيلم حين عرض في صالات السينما، ولم يغطِّ حتى تكلفته الإنتاجية، ولكن بمرور الوقت ومع عرضه لمرات عديدة، ورغم الأخطاء التاريخية العديدة والكبيرة، استطاع أن يحقق النجاح الكبير مع عرضه المتتالي على الشاشات.
هل رُشّح "الناصر صلاح الدين" للأوسكار؟
في كل عام، حين يُعرض فيلم "الناصر صلاح الدين"، يردد الجمهور المصري جملته الشهيرة، وهي أن "الفيلم رُشّح للأوسكار وتم رفضه بسبب الساعة التي كان يضعها أحمد مظهر في يده". وهناك رواية ثانية، تقول إنه رُفض بسبب "ساعة كان لابسها جندي من الجنود"، إلا أن هذا الكلام غير دقيق لأن الفيلم لم يرشَّح أساساً للأوسكار...