على مدار أكثر من نصف قرن سجل المخرج هنري بركات مشواره المميز في السينما المصرية، بأفلام منحته لقب "شيخ المخرجين"، إذ بدأ أولى تجاربه الإخراجية الروائية الطويلة بفيلم "الشريد" بعد أن تحمست المنتجة اللبنانية آسيا للفنان الشاب الموهوب الذي عمل من قبل كمساعد للإخراج في عدد قليل من الأفلام، لكن موهبته كانت واضحة لتسند له مهمة الفيلم الذي تصدرت بطولته عام 1952.
التزم هنري بركات في أول أفلامه السينمائية بكل ما يتطلبه العمل السينمائي من تقنيات وأسلوب تصوير واحترام النص المكتوب، لكنه فوجئ بالجمهور يضحك في صالة العرض، رغم النهاية المأساوية لبطلة العمل، ما جعله يسأل عن السبب ووجد الإجابة واحدة وتتلخص في: "ضحكنا لأنها تستحق الموت"، هنا قال المخرج الشاب لنفسه: "في المرة المقبلة سأضع الجمهور في حساباتي، ستكون له الأولوية".
المخرج الذي تمر اليوم ذكرى ميلاده الـ110، وولد في حي شبرا الشعبي بالقاهرة لأصول لبنانية في 11 حزيران عام 1914، لم ينس طوال أكثر من 50 عامًا هي عمر مشواره الفني، تلك النصيحة الذاتية التي قالها لنفسه، حسبما صرح في لقاء تلفزيوني قديم قائلًا: نعم الجمهور قال لي أنا هنا، والتزمت بعد ذلك لأضعهم في مقدمة أولوياتي. هذه النصيحة منحت بركات لقبًا آخر يميز تجربته الفنية بشكل كبير وهو "صائد اللآلئ" الذي يعد الأكثر تماسًا ووصفًا لتجربته الفنية الممتدة، إذ حرص على اختيار قصص وروايات تتماس مع المجتمع المصري وتناقش قضاياهم ومشكلاتهم، وتتعرض أيضًا لقضايا المرأة، وتتوغل داخل البيت المصري سواء في الريف أو الحضر.
وفي مشوار شيخ المخرجين تجارب سينمائية عدة، لكن يبقى تعاونه مع الأديب طه حسين في فيلم "دعاء الكروان" أحد أبرز المحطات الفنية التي صنعت له جسرًا امتد إلى القرى والمحافظات المصرية المختلفة، كما يتضح في هذه التجربة مدى دقته في اختيار الأعمال ورقته في تناولها لتكتسب طابعًا حميمًا ودافئًا شديد الثراء.
دقة الاختيار في "دعاء الكروان" لا تأتي من تحويل الرواية إلى فيلم سينمائي، بل في تحويل دفتها من الفنان فريد الأطرش الذي كانت تجمعه به علاقة صداقة وتعاون فني كبير عبر أعماله منها "عفريتة هانم" و"رسالة غرام"، وتوجيه العمل إلى الممثل الأنسب وهو أحمد مظهر.
"جاء لي فريد الأطرش برواية دعاء الكروان، وطلب مني أن أخرجها له في السينما، وبعد أن قرأت الرواية أبلغته على الفور بأن اختياره خاطئ، ونصحته بأن ينساه تمامًا ويبحث عن نص آخر".. هكذا تحدث هنري بركات عن قراءته الرواية للمرة الأولى، وعزمه على إخراجها، لكن كانت هناك رهبة الموقف وخوف داخلي من الفشل، لأنه لم يسبق له أن أخرج فيلمًا عن الريف المصري.
يعتز "شيخ المخرجين" بتجارب عدة في مشواره الفني، ومنها فيلم "الحرام" أحد أبرز الأفلام في تاريخ السينما المصرية، وأيضًا بفيلم "في بيتنا رجل" عن رواية للأديب إحسان عبد القدوس، ويتضح في تحويله لهذه الرواية إلى فيلم سينمائي، مدى حرصه على أن تكتسب طابعًا أسريًا وينقل الدفء العائلي الذي كتبه عبد القدوس في الرواية إلى المشاهد.