في منتصف الخمسينيات، نشرت مجلة "الكواكب" المصرية على صفحاتها وعلى مدار عدة أجزاء، مذكرات فراشة السينما والرقص الشرقي سامية جمال، التي كتبتها بنفسها خلال تلك الفترة، ولم تختر يومها البدء بالحديث عن الرقصة الأولى، ولا من مشهد السينما الأول في حياتها، وإنما من "القَلم" الأول... من الصفعة الأولى على وجهها التي أورثتها حزناً لا متناه ورعباً ممتداً من المجهول ومن فقد الأحباء.
حكت سامية جمال مذكراتها وروت فيها طفولتها الفقيرة في بني سويف قبل أن تنتقل مع أسرتها إلى القاهرة، وتسكن على حوافها في حي بائس مع أبيها الشرس القاسي وأمها الطيبة التي لا تملك من أمرها شيء في مواجهة الزوج المستبد، وطليقة أبيها وأخوتها من أبيها.
عاشت الفقر والجوع في طفولتها
تروي سامية جمال أن أبيها كان متزوجاً وله أبناء قبل الزواج من والدتها، وحينما تزوج من أمها، طلّق زوجته الأولى ورماها مع أبنائه منها في الشارع، لكن والدتها استعطفته وتوسلت إليه أن تعيش طليقته والأبناء معها.
وتحكي سامية جمال أن الفقر كان يجبرهم أحياناً على أكل العيش والملح فقط، وعرفت الجوع مبكراً، مشيرةً إلى أن حنان والدتها كان يعوّضها عن الطعام والشراب وتصفها بأنها كانت "كريمة على فقرها، إلى حد أنني أتصور أنها كانت تتمنى أن تجمع الهواء الذي تتنفسه وتهبه لنا جميعا".
حين تحقّقت أمنيتها الوحيدة...
وتحدّثت سامية جمال في مذكراتها عن بداياتها الفنية وأمنياتها المهنية والحياتية، حيث كشفت عن الأمنية الوحيدة التي راودتها في صغرها، حيث قالت: "الأمنية الوحيدة التي كانت تملأ ذهني وأنا طفلة أعيش مع والدي وزوجته.. هي أن أجلس إلى مائدة حافلة بكل ألوان الطعام وأنطلق بالأكل بلا رقيب... فقد اعتادت زوجة أبي أن تضع أمامي قدراً ضئيلاً من الطعام لا يكفيني وتسرع إلى توبيخي حتى انتهي منه... وبعد الشهرة حقق الله أمنيتي وأصبحت قادرة على أن أحشر كل ألوان الطعام على مائدتي إلا أنني أصبحت لا أستمتع بالأكل...".
مرض أمها
وتواصل سامية جمال في مذكراتها المحكية، أن أمها مرضت مرضاً شديداً، حتى نقلت إلى المستشفى. حيث قالت: "شعرت في البيت بحركات غير مألوفة، وهمسات غريبة، ولم أفهم شيئاً مما حولي ولكني أحسست نذير السوء، وعندما هم أهل البيت بالذهاب إلى المستشفى، تبعتهم بغير دعوة، وسرت وراءهم حيث يسيرون، إلى أن وصلنا إلى المستشفى، وأخذوا يذرعونها صعوداً ونزولا وهم يسألون.. يسألون ويسألون ولا مجيب، وكنت أتبعهم كالحالمة وكان همي أن أطفئ ذلك الشوق الذي ثار في أعماق قلبي لرؤية أمي، وأخيراً رأيتهم يسألون رجلاً عن شيء لا أعرفه، فأرشدهم إلى ممر طويل، التقوا فيه برجل آخر، وأشار إلى مكان يقع في أسفل البناء، وهناك.. في ذلك المكان الذي لا تبرح صورته مخيلتي، برز لنا رجل ضخم الجثة، في ملابس بيضاء، وسأله أبي عن أمي، وذكر له اسمها، فنظر إليه الرجل الضخم نظرة طويلة صامتة، ليس فيها معنى من معاني الحياة وقال وكأن الأمر لا يعنيه: "راحت...".
الصفعة الأولى...
وتواصل سامية جمال في المذكرات التي قصتها على صحفي مجلة الكواكب: "انتهزت فرصة انشغالهم وتسللت دون أن يشعروا بي، وفتحت الباب، فإذا أنا في حجرة كبيرة بها عدة أسرة كالموائد، مغطاة بملايات بيضاء، وفي منتصف الغرفة، وجدت أمي نائمة على إحدى الموائد، وخيل إلى أنها تحس بي كما أحس بها، فأقبلت عليها في فرحة مجنونة لأقنعها بأن تعود ولا تهرب مني بعد الآن أو تأخذني معها إذا كانت تريد الذهاب، وصحت بها أناديها وهي لا تصحو ولا تجيب! وهرع إلي الجميع وأمسكوا بي، وحملوني إلى الخارج من هذه الحجرة، وما كدت أخرج من هذه الحجرة، حتى أحسست كأنني أخرج من القبر إلى النور، ولكن هذا النور لم يدم إلا لحظة واحدة، فقد كانت طليقة أبي تنتظرني أمام الباب، لتهوي بيدها الثقيلة على وجهي في صفعة قاسية! كانت هذه هي أول صفعة في حياتي.. وأول لقاء بيني وبين أمي القادمة".
وأعاد والد سامية جمال طليقته إلى عصمته بعد وفاة والدتها، لكن زوجة أبيها لم تصن معروف والدتها لها، وعذبت الفتاة الجميلة تعذيباً شديداً، ومنعتها من التعليم ومن الخروج من المنزل، وكالت لها مئات الصفعات، لكن الصفعة الأولى على باب المشرحة حيث كان يرقد جثمان والدتها، كانت مكمن الحزن الجارف في داخلها.. الحزن الذي ظل يلون وجهها حتى وهي تبتسم.