تقارع صور السيدة فيروز العلم اللبناني بانتشارها على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي التي تضجّ هذين اليوم بعيد ميلادها المتزامن مع عيد الاستقلال.
فإذا كان استقلال الوطن فرحة لم تكتمل منذ الانتداب مرورًا بزمن الحرب الدامية وبعدها الوصاية بما تخللها من صراعات وظروف جارحة حتى اليوم، فإن صوت فيروز يبلسم وجع اللبنانيين بأغنيات تحاكي أوجاهم والوطن والقلب والقضايا العربية والإنسانية.
نعم، هكذا هي "فيروزنا" حاضرة رغم الإنكفاء، ثابتة بنجوميتها رغم الزعزعة الأمنية، فصوتها الذي يشرق في كل صباح يعزّز صمود اللبنانيين بالرغم من ضبابية المشهد، ويزرع فيهم الأمل غصبًا عن المآسي الطاغية!
إنها سفيرتنا إلى النجوم، التي تبلغ اليوم عامها الـ90، بعد رحلة عطاء لامعة حملت فيها صوت الوطن إلى أصقاع الأرض، حيث تغنّت بـ "بيروت، ودمشق، والقدس، وإلاسكندريّة، وبغداد" وغيرها من المدن العربية في المحافل الدولية..
وفيروز التي أحب صوتها الشعب المصري وكل الدول العربية، هي الأرزة المترفعة عن انقسامات اللبنانيين، التي رفضت الغناء بأي منطقة لبنانية، منعًا لاحتسابها على فئة دون أخرى خلال الحرب الأهلية.
وهي العربية التي أطلقت صرخة العودة إلى فلسطين بأغنية "الآن الآن وليس غدًا أجراس العودة فلتقرع"، وربما تكون محبة فيروز بشخصها وفنها هي القضية اللبنانية الوحيدة التي يتفق عليها اللبنانيون فوق كل تناقضاتهم السياسية والطائفية!
فنيًا، أحدثت فيروز بأغنياتها نقلة نوعية في الأغنية العربية، بإدخالها الغنوة القصيرة المؤثرة باللهجة اللبنانية من خلال تعاونها مع الرحابنة المبدعين عاصي ومنصور وأيضًا الياس.
قد لا تتسع صفحات لذكر مجمل أعمالها بين المسرح الغنائي والأغاني المنفردة التي قدمتها للحب والعشاق، والقرية اللبنانية، والذكريات والثورات، ومعظمها يتردد على مسامع الأجيال الطالعة حتى يومنا هذا، رغم تقاعس بعض الإذاعات الحديثة عن بث أغنياتها بحجة التطور والعصرنة!
قدمت فيروز نحو 15 مسرحية متنوعة من تأليف الأخوين رحباني، وأشهرها "ميس الريم"، "ناس من ورق"، "صح النوم"، "المحطة"، "لولو"، "ناطورة المفاتيح"، "جسر القمر"، و"بياع الخواتم" التي تحولت فيما بعد إلى فيلم سينمائيّ.
وحين يفاضل المحبون بانتقاء اغنياتها الراسخة في وجدان الأجيال المتعاقبة، لا تنتهي القوائم من ذكر أعمالها المطلوبة، وربما يكون أبرزها "حبيتك بالصيف"، "قديش كان في ناس"، "شادي"، "بكرا أنت وجايي"، "حبوا بعضن"، "طريق النحل"، "سوى ربينا"، "نحنا والقمر جيران"، "فايق شو حكينا"، "بعدك على بالي"، "كيفك انت ملا انت"، "بكتب اسمك يا حبيبي"، "رجعت العصفورة"، "أسامينا" وغيرها من الأعمال الخالدة.
فيروز التي عُرِفَت برفضها للإنحياز، نوّعت حتى في كلمات أغنياتها. فقد غنّت كلمات لـ"جبران خليل جبران، سعيد عقل، أحمد شوقي، ميخائيل نعيمة، إيليا أبو ماضي، ونزار قباني، وجوزف حرب"، كما تعاونت بأغنياتها الأخيرة مع نجلها المبدع زياد الرحباني.
وإذا كان البعض يعيب عليها غيابها عن التصريحات الإعلامية، ويتهمها بالتكبّر والغرور، فمن يتابع أخبارها ويقرأ عن نشأتها كشابة كانت تحمّر وجنتاها خجلاً من الصعود على المسرح، سيفهم معنى تحفظها.
أما عن اتهامها بالغرور، ففيروز الأم التي تهتم برعاية نجلها "هلي" من ذوي الاحتياجات الخاصة، تدحض هذه المقولات الساذجة عن نجمة لم نسمعها يومًا تبجّل بإنجازاتها رغم الإجحاف الذي تعرضت له في عدة مراحل من عمرها.
حملت فيروز صوت الوطن والعرب إلى دول العالم. حيث تألقت في عواصم كبيرة بينها نيويورك وسان فرانسيسكو ومونتريال ولندن وباريس، وبقيت تعيش في لبنان في زمن الحرب رغم تحفظها وحزنها على واقع الوطن المستمر بمعاناته.
زارها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وشرب في منزلها القهوة اللبنانية غداة كارثة انفجار المرفأ الذي عُرِفَت بـ"بيروشيما".
وفيما تساءل كثر عن سبب هذه الزيارة، أجمع عدة صحافيين وإعلاميين على أن "ماكرون" أراد أن يضيء على لبنان القيم الوطنية والجمال والفن والحرية، لبنان الجمال والإبداع الذي لا علاقة له ببشاعة الحروب ومسلك السياسيين المخربين على قاعدة "فرق تسد".
ربما تكون فيروز قد قررت الاعتكاف حزًنا على حال وطن لم يعرف سياسيوه قيمة الابداع، لكن الشعب لم يعترف باعتكافها..
فرغم غيابها عن تقديم أغنيات جديدة، تبقى أعمالها القديمة طازجة مشحونة بندى الصباح اللبناني وأماسيه الجميلة..
ورغم المحاولات المستمرة لتقليدها، ستبقى هناك فيروزة واحدة.. هي التي لمعت في زمن لم يعط النجومية للقامات المغرية، ولا للوجوه التي خضعت لمبضع التجميع وإبر السيليكوم، لتطغى اليوم بحضورها على نجمات السوشال ميديا، التي لم تتقن استخدامها..!
توقفت فيروز عن إحياء الحفلات المباشرة في عام 2012، لكن عيد ميلادها الـ90 يُثبت حضورها في وجدان اللبنانيين والعرب الذين تداولوا أغنياتها وصورها منذ الأمس احتفاء بها.
ولقد كان لافتًا ما نُشِرَ عنها من قصص وطرائف، كان أبرزها استذكار جوابها الذكي خلال مقابلة أُجريت معها عام 1999، حين سُئِلَت: إلى ماذا تستمعين في كل صباح؟ فردت بالعامية اللبنانية ضاحكة: "بسمع صوتي من الشبابيك"!
فيروز.. في عامها الـ90 تبدو كشمعة تتجدد بنورها، وتستمر بتكريم الوطن الذي لم يكرّمها على قدر استحقاقها..
إنها حاضرة، كماسة تُصقل نجوميتها بذخر عطائها..